تفعيلُ حاسَّةِ اللَّمْس

ثقافة 2024/02/14
...

شاكر الغزي



في مذكراته (غصن مطعَّم في شجرة غريبة)، يلفتُ صلاح نيازي النظر إلى استعمالنا الحيويّ لحاسة اللمس خلافاً للغربيين الذين يحاولون قتل هذه الحاسة أو إقصاءَها.

وبالفعل، فنحن نُفعّل هذه الحاسة بشكل حيويّ لعقد الأُلفة بيننا وبين الأشخاص والأشياء من حولنا. 


مثلاً، نحن لا نكتفي بشمّ رائحة الوردة، بل نقطفها ونمسّد بتلاتها بأطراف أصابعنا، وأيضاً نُهدي الوردة المقطوفة لشخص عزيز، وهذا تفعيل ثلاثي ــ فيه متعة وفائدة ــ لحاسة اللمس في القطف والتمسيد والإهداء. بينما يكتفي الغربيون بشمّ الورود فقط، ويعتبرون لمسها فعلاً غير حضاريّ قد يؤدي إلى ذبولها، أما قطفها فهو مشين بلا شكّ! ويتندّرون بالقول: إذا أردت أن تهدي الورود فيمكنك شراؤها من محال الهدايا. وكأنّ الورود في المحال نبتت بدءاً في الباقة ولم تقطف!.

وفي علاقتنا بالطعام، فنحن كنّا نستخدم أيدينا في الأكل، ولا يزال البعض يفعلون ذلك ويمصمصون أصابعهم مستمتعين، أما البعض الآخر فيستخدمون أيديهم بنسبة أقلّ. 

الأكل باليد يزيد متعة التلذّذ بالطعام ويعقد علاقة وطيدة بين الآكل والمأكول، تشعر بسخونته وتتحسّس قوامه، حاسة اللمس تعطيك انطباعاً أولياً عن الطعام قبل أن ترفعه يدك قريباً من فمك؛ فتشمّه ثمّ تتذوقه. 

الغربيون قتلوا حاسة اللمس باستعمال الملعقة والسكين والشوكة. 

وفي علائقنا الاجتماعية، نحن نكثر من المصافحة والتقبيل. القبل هي استعمال لحاسة اللمس أيضاً. نصافح الأصدقاء والمقرّبين ونقبّلهم أكثر من قبلة، ونحضنهم أحياناً، أما الغرباء فنكتفي بمصافحتهم فقط. أما هم فيكتفون بإلقاء التحايا الشفاهية، ولا يتصافحون إلا نادراً. نحن نضع أيدينا على كتف الآخر ــ قريباً كان أو غريباً ــ كنوع من التودّد والألفة، ونتشابك بالأذرع أثناء المشي، في حين أنني لاحظت في الكثير من الأفلام الأجنبية أنهم يعتبرون وضع اليد على الكتف أو الظهر، بل مجرّد اللمس، تعدّياً وإهانة! فنقرأ حوار: ضع يدك عليّ مرة ثانية وسأقطعها لك!.

يشير نيازي إلى أنّه لم يسمع ابنة سيد البيت الذي يسكن فيه أو زوجها، يُدلّلان طفلهما ستيف. لم يقبّله أحد. لم يحتضنه أحد. لم يقرصه أحد بمحبة!.

في حين أنّ علاقتنا بالأطفال قائمة كلّياً على حاسة اللمس، قبلات متتالية، وأحضان عميقة، وقرصات للخدود لا عدَّ لها. بمجرد أن نرى طفلاً ــ حتى لو كنا لا نعرفه ــ فإننا نهشّ له، نمسح على رأسه ونطبطب على كتفيه، نحمله ونقبّله ــ بعد استشعار موافقة أهله طبعاً ــ ونداعب خديه بالعضّ والقرص.

في الغرب، يعدّون تقبيل الأطفال الغرباء أو احتضانهم نوعاً من التحرّش حتّى لو كان عفوياً وصادقاً. 

ربما لهذا السبب تجد أطفالهم أكثر تعلّقاً من أطفالنا بالدمى القطنية والدباديب. وحين يكبرون فإنهم يتعلقون بالقطط والكلاب والحيوانات الأخرى، يكثرون من تقبيلها واحتضانها وتدليلها. 

ربما يعكس ذلك نوعاً من الحرمان العكسي.

في الطبّ والعلاج، يبرع المعالجون والأطباء، وحتى الممرضات، عندنا باستعمال أيديهم في تلمّس مناطق الألم ومسح وجوه المرضى ورؤوسهم لتطمينهم وتمنّي العافية لهم. عندهم، عمّم الأطباء تعليمات إلى الممرضين والممرضات بلمس المرضى لأنّ ذلك يساعدهم في الشفاء، وذكرت بعض التقارير أنّ 80 % من مرضى القلب تخفّ متاعبهم لو كانت لديهم كلاب! فما بالك بهم لو كانت لديهم عوائل تعتني بهم وأصدقاء يزورونهم.

أما في العلاقات الحميمة، فنحن نكثر من استعمال الأيدي، بدءاً من خلع ملابس الآخر، فيكون حتى فكّ الزرّ فعلاً ممتعاً ولذيذاً تستشعره حاسة اللمس، أما هم فيكتفي كل واحد بخلع ملابسه القليلة أصلاً، وقد قرأت في بعض التقارير أنّ النساء يشتكين من استعمال الشريك المفرط ليديه!.

يقول نيازي بعد التفاته إلى هذه الظاهرة: قلت بنفسي لن تستطيع الحضارة الأوروبية مهما أوتيت من قوة وتقدّم أن تقتلع مني حاسة اللمس.

ثمّ يستطرد نيازي قائلاً:

ستتعطل كتابتي لو فقدت حاسة اللمس، إنها كلّ حواسي، بها أرى وأسمع وأشمّ وأتذوّق. ولا تعظم الحواس الأخرى إلا إذا أصبحت لمساً.

لا تستطيع أن تعبّر عن الحنان إلا باللمس.

معظم شعر أحمد شوقي مكتوب بحاسة اللمس.

بعض سور القرآن العميقة التأثير مكتوبة بحاسة اللمس.