في النقد المقارن بين كامو وكوكتو مسرحيّاً

ثقافة 2024/02/14
...

د. سعد عزيز عبد الصاحب




في الكشف عن التعالق الأسلوبي والفلسفي بين الكاتبين والمفكرين الفرنسيين (جان كوكتو) (1892ـ 1963) و(ألبير كامو) (1913ـ 1960) على وفق منهج النقد المقارن يتبدى أمامنا العديد من المشتركات والتناصات بين الكاتبين ذائعي الصيت فرضتها فواعل الفلسفة الوجوديَّة وأبعادها الفكرية التي سادت فرنسا منتصف القرن العشرين، وانبثاق الاتجاهات والتيارات الفنية كالسوريالية والدادائية والمستقبلية التي ألقت بظلالها على ثقافة الكاتبين اللذين عاشا تمزقاً مريراً للوعي بين الإيمان والإلحاد، بين العشق الصوفي والنزق الحسي، بين الابولوني والديونسيوسي على حد تعبير (نيتشه)، وكلا الكاتبين انكفأ على ذاته منعزلاً عن وسطه الفني والأدبي البراق مؤثراً الانصراف نحو التأمل والمراقبة والغور في أعماق الذات الإنسانية والكشف عن لواعجها وعللها الجوهرية،
 يقول (كوكتو): “لقد خلق الله الإنسان في صورته، فكلما اقترب الإنسان من نفسه اقترب من الله”، إي إلى الصورة الحقيقية للنفس الإنسانية لذا فقد كان كما يقول، ينطوي على نفسه بكل قوته لكي يصل إلى حقيقتها ويتجرد مما علق بها من قشور، في حين يلجأ (كامو) إلى تعرية الوجود وفضحه في ضوء نقد الموجود (الإنسان) فهو في مسرحية (سوء تفاهم) يؤسس ويطرح مفارقة وجودية عجيبة إذ يصبح سوء التفاهم مرتبطاً بالوجود البشري في الحياة (وفي تخلي العناية الإلهية عن الإنسان وتركه في مهب صدف تتلاعب بحياته)، كما يعبر الناقد (إبراهيم العريس) وقد نراها من زاوية نظر أخرى دعوة إلى معرفة قيمة التواصل الإيجابي في حياتنا، حينما لم يُعرّف (جان) الشاب المهاجر العائد إلى وطنه عن نفسه لأمه وأخته ويبقي الأمر مبهماً ملتبساً إلى أن يتم القضاء عليه من قبلهما في ذلك الفضاء القصي النائي الذي يديره عجوز صموت لا يعرف إلا التخلص من ضحاياه برميهم في الوادي السحيق كأنه سيزيف وهو يدحرج صخرة شقائه، لتنتحر الأم بعد أن تعرف أنَّ المقتول بيديها هو ولدها وتذهب الابنة (مارتا) مختلة إلى أقاصي الساحل تعلن كآبتها الأبدية من هذه الفظائع التراجيدية وعبث الحياة في ظلها، وليصبح (جان) الابن ضحية لعبته العابثة وتردده في الإعلان عن نفسه، ليس سوء التفاهم لدى ألبير كامو هنا سوى ذلك التطلع إلى المسرة والسعادة والحب من قبل إنسان يجد نفسه عاجزاً تماماً عن الحصول عليها مرمياً في غياهب وحدة مدمرة، يتكئ نص (كامو) في بؤرته المركزية على مفهوم (الجندر) المرأة بوصفها بطلاً تراجيدياً وهي تتحول من سلوكها الفطري الأول الذي جُبلت عليه رمزاً للعطاء والديمومة والتضحية إلى آلة للقتل والبطش والفناء البشري بقلب الدلالة المركزية للجندر والاستعاضة عنها بدلالة مغايرة تدعم الحبكة الدرامية التي أرادها كامو أن تكون ضمن النسق التراجيدي الأرسطي المعروف حيث فعل التعرف ومن ثم التحول، التعرف إلى هوية المقتول (الابن) والتحول يتجسد بالنهايات الدراماتيكية للأم والابنة (الانتحار) وسقطة البطل هي عدم تعريف الابن (جان) بنفسه وهويته منذ البداية، تعاني الأم من عقد نفسية مدمرة تتجسد بعقدة (الكترا) وهي عقدة الغيرة والكراهية من الآخر الأعلى طبقياً تؤدي بها إلى تصفية ولدها، أما لدى (جان كوكتو) في مسرحية (الملاح البائس) التي يسرد متنها الحكائي عودة ملاح إلى بلدته الساحلية وزوجته بعد غياب استغرق خمسة عشر عاماً لتتغير سحنته وهيئته لاعباً لعبة التباس الهويات إذ يصل ليلاً ليطرق باب بيت زوجته التي لا تتعرف عليه منتحلاً صفة صديق زوجها في الغربة حاملاً في جعبته أموالاً وجواهر ثمينة ويسرد قصة وهمية عن زوجها الذي تركه في الغربة معدماً فقيراً مديوناً لا مال لديه ولا يستطيع العودة بسبب فقره، تحزن الزوجة لأخبار زوجها المحزنة وتُضمر أمراً ما، يبيت الزوج/ الصديق في بيت أبيها وهو عبارة عن حانة قديمة على الساحل وعندما يحل الفجر تذهب الزوجة وبيدها مطرقة حديدية وتضرب رأس زوجها النائم الذي فاضت روحه وهي تسلبه أمواله وجواهره لتغني زوجها الملاح المنتظر، يتداخل النصان (سوء تفاهم) و(الملاح البائس) في أنهما يعتمدان على التباس القصد في الحبكة لدى الشاب (جان) العائد والملاح العائد في كلتا المسرحيتين ويشتركان بنفس سقطة البطل وهي عدم التعريف بالهوية الحقيقية للشخصية واللعب العبثي الذي يودي بكليهما إلى الموت، تقع الأحداث في كلتا المسرحيتين بأماكن نائية في فندق قصي على طريق خارجي ولدى كوكتو في حانة قديمة نائية على أحد سواحل المدن الفرنسية البعيدة وذلك تمهيداً لفعل الجريمة السري الذي يختلف في كلتا المسرحيتين ففي سوء تفاهم فعل الجريمة قصدي وثابت وتأريخي على الأم وابنتها في حين لدى الزوجة هو فعل مفاجئ ارتبط بحضور السرد الوهمي للزوج عن الملاح الغائب وحضور الأموال التي ستغير من حال الزوجة والملاح من حال الفقر إلى الثراء، عقدة (الكترا) النفسية ماثلة لدى زوجة الملاح كما الأم في سوء تفاهم، إذ إنها تغار على زوجها من صديقه الثري المحمل بالأموال والجواهر والحلي وتصل بها الغيرة إلى الذروة في فعل القتل، لدى (كوكتو) لا يتم التعرف على هوية الملاح من قبل الزوجة أو أبيها فكل شيء مكشوف أمام المتلقي والحبكة معروفة نهايتها سلفاً وهي أقرب للحبكات المعاصرة في مبناها كأنها من نوع المسرح الملحمي، نجد في كلتا المسرحيتين ثنائية الحب والموت يمتزجان مع الطمع والجريمة في جمع عجيب للأضداد للخروج بسخرية مرة من قبل المتلقي وتحريك وعيه، كامو يبحث في الانعتاق من المكان إلى فضاءات أرحب من الحرية والتوق إلى عوالم جديدة خصوصاً لدى شخصية الابنة (مارتا) في حين يبحث كوكتو وشخوصه عن الاستقرار والثبات في المكان.