رقصة الزرازير في الدنمارك

بانوراما 2024/02/15
...

  تيم بيرد
  ترجمة: مي اسماعيل

بينما تميل الشمس للمغيب فوق مساحات شاسعة من أراضي المستنقعات؛ تطير ملايين طيور الزرزور «starling» لتشكل أسرابا تتماوج بحركة ساحرة غامضة لا يعرف أحدٌ حتى الآن كيف تنشأ..
يبدو الزرزور المتواضع حين نراهُ منفردا، وهو يرتدي حُلّة ريشه المرقط ذي البريق الأخضر اللامع، جميلا بما فيه الكفاية. ولكن حين تتجمع تلك الطيور معا في رقصة هوائية متزامنة وممتدة؛ تُشكّل تلك المخلوقات الصغيرة إعجوبة طبيعية مُذهلة.. وإن كانت غامضة نوعا ما: الاسراب المُدمدِمة «a murmuration «.

«الشمس السوداء»
خلال فصلي الربيع والخريف، وحين تغرب الشمس فوق الأراضي الرطبة الواسعة الموحلة في متنزه «بحر وادين» الوطني جنوب غرب الدنمارك؛ ينطلق ما لا يقل عن مليون ونصف المليون من طيور الزرزور ويرتفعوا معا في رقصة تبدو عفوية كالموجة. وبينما تُحلّق الطيور قرب بعضها؛ يشبه الصوت الناتج عن رفرفة أجنحتها مجتمعةً صوت الشلال المتدفق. وتُشكّل الطيور تجمُعاتٍ تشبه الغيوم: داكنة وكثيفة بحيث استحقت الاسم الذي يُطلق عليها محليا: «الشمس السوداء-Sort Sol».
فتنت طيور الزرازير الانسان منذ بدء الذاكرة؛ إذ كان قدماء الرومان يعتقدون ان أنماط طيرانها المتموجة تشير إلى الحالة المزاجية المتغيرة للآلهة. وفي الأساطير السلتية ارتبط طائر الزرزور مع الإلهة «برجيد»؛ آلهة الشفاء والخصب. وبعدما أذهلونا لآلاف السنين بقدراتهم على تشكيل «غيوم طائرة» متغيرة الأشكال؛ الآن بات السبب الذي من أجله ترتفع تلك الطيور وتتراجع وتدور بانسجام تام معروفا بشكل عام. ورغم ذلك لا يوجد تفسير حاسم لكيفية تمكُّن الزرازير من تحقيق تلك الأنماط التي تبدو وكأنها «مُصممّة» بدقة.
اليوم بات بالإمكان رؤية أسراب الرزرازير المُدمدمة في أماكن متباعدة؛ مثل جنوب بريطانيا وخليج سان فرانسيسكو بأميركا ووسط روما.
لكن الآفاق الواسعة لمقاطعة جنوب جوتلاند بالدنمارك والاراضي الساحلية الرطبة لبحر وادين (والتي تُشكّل أكبر نظام بيئي ممتد من الرمال والسهول الطينية المدّية في العالم) تُقدّم منظورا فريدا ذو 360 درجة لكل من الطيور المقيمة والمهاجرة. يشرح «جيسبر دانيبيرج فوس» مرشد الرحلات الطبيعية المحلي بمنطقة سورت سفاري قرب الحدود الألمانية، السبب الذي يجعل اسراب الزرازير تحتشد مرتين سنويا، قائلا: «تقضي الطيور الصيف في فنلندا والسويد أو سايبيريا، وحينما يصبح الجو باردا وتبدأ الأرض بالتجمُّد؛ تهاجر الطيور جنوبا، وتتوقف هنا لأن الظروف مثالية. فتبقى هنا شهرا أو شهرين قبل التوجه جنوبا الى بلجيكا وانكلترا؛ لتعاود الطيران الى الشمال في الربيع التالي».  
وفقا لفوس، يعتبر هذا الركن الجنوب غربي من الدنمارك موطنا مثاليا لإقامة الزرازير المؤقتة؛ لإحتوائه على وفرة من القواقع واليرقات والفواكه المتساقطة. كما توفر نباتات القصب الطويلة في المستنقعات مأوىً ليليا جيدا لحماية الطيور من المفترسات، التي تشمل الصقور والحدأة والثعالب. ويمضي فوس قائلا: «تنام الزرازير بوضعٍ عمودي وهي ممسكة بسيقان القصب، بما قد يصل الى خمسة طيور في كل ساق. وينخفض عندها إيقاع خفقان قلوبها وتسترخي، متراصة مع بعضها طلبا للدفء والراحة، على ارتفاع نحو مترين فوق سطح الماء. وأظهر التصوير الحراري أن حرارة جسم الزرزور في الليل تبلغ 31 درجة مئوية، حتى لو كانت درجة الحرارة الخارجية أقل بكثير».
الغيمات المُدمدِمة
حينما تبدأ الشمس بالارتفاع؛ تغادر الزرازير مكان استراحتها المختار، مُحدثةّ ضجة ضخمة مفاجئة وصاخبة؛ منتشرةً عبر أراضي المستنقعات لتقتات في مجموعاتٍ صغيرة، بعدما تستطلع خياراتها من على أسطح الحضائر المجاورة. وفي المساء تبدأ الطيور بالتجمُّع ثانية، لتبدو من بعيد كأعمدة صغيرة من الدخان في الأفق؛ قبل أن تتوحد مجموعاتها وتطير بكتل أكبر (في تجمعات قد تقارب الستمئة ألف طائر). يستطلع القادمون الأوائل أفضل المواقع لقضاء الليل المقبل، وإذا جرى اكتشاف وجود بعض الضواري؛ ترتفع الطيور ثانية في تكوينات جمالية عفوية.. وهنا تبدأ أصوات الدمدمة..
بدأ العلماء مؤخرا وبالتفصيل دراسة الأسرار الكامنة وراء تلك التشكيلات. وبينما تبقى الطرق الدقيقة التي تُنسق بها طيور الزرازير «دمدماتها» فيما بينها وكيفية تواصلها مع بعضها البعض «غامضةً» نوعا ما؛ يعتقد الكثير من المختصين ان سبب طيرانها مع بعضها في تشكيلاتٍ موحدة يرتبط بمبدأ «السلامة في الاعداد الكبيرة». وكما أوضح فوس؛ فإن الضواري المتربصة تشعر بالتشويش بسبب الأشكال المتغيرة لغيمة الطيور وكثافتها؛ مما يجعل من الصعب على صقر أو نسر أو حدأة أن يصطاد منها ضحايا منفردة. ويعتقد بعض علماء الحيوان أيضا أن «عروض الباليه الجوي» التي تقوم بها طيور الزرزور تساعدها على البقاء دافئة أثناء الليل؛ من خلال الإشارة إلى السرب ليجتمع معا ويجثم على سيقان القصب قبل ليلة باردة. واضافة لدمدماتها وتشكيلاتها الساحرة؛ فلطيور الزرازير قدرة مذهلة على تقليد الأصوات. وقيل في روايات التاريخ ان الامبراطور الروماني نيرون كان له طائرا زرزور يتحدثان بالاغريقية واللاتينية. وأن المؤلف المسيقي موزارت ربما كان يستوحي من مواهب الزرزور الكورالية؛ إذ كان لديه طائر زرزور في قفص بجوار البيانو الخاص به!

ليست مُتاحة دائما
وكما هو الحال في أي ظاهرة طبيعية لا تتكرر كثيرا (مثل انفجار البراكين وأضواء الشمال)؛ لا تُعتبر مشاهدة غيوم الزرازير ودمدماتها أمرا مُتاحا دائما. ويمكن القول ان منطقة المستنقعات والسدود المحيطة بأراضي «توندرمارسكين» الرطبة بالدنمارك، والمنطقة الواقعة على الجانب الآخر من الحدود الألمانية؛ من المناطق المفضلة لإستقرار الزرازير؛ وبالتالي مثالية لمشاهدة غيماتها المُدمدمة. وتُعتبر أشهر أيلول وتشرين الأول من أفضل الاوقات لذلك. ولكن رغم توافد الزوار من مناطق بعيدة لمشاهدة تلك الظاهرة؛ فإن هناك من لا ينظر اليها بعين الإعجاب. فتلك الطيور تهبط كثيرا بالمئات أو الآلاف في حظائر الأبقار المحلية، لتتناول غذاءها الذي يوفره المزارعون. وفي روما، حيث يجتمع سنويا نحو أربعة ملايين طائر زرزور كل شتاء قبل الهجرة جنوبا الى أفريقيا؛ تُشكّل المخلفات التي تتركها الطيور خطرا صحيا عاما.

بي بي سي البريطانية {رحلات}