ناظم حكمت في سجنه.. كشف الأسرار

ثقافة 2024/02/18
...

  د. سعد عزيز عبد الصاحب


ما الوازع الفكري والاجتماعي والثقافي الذي دعا المثقف اليساري والشاعر الاممي ناظم حكمت (1902 ـ1963) لأن ينفتح على التراث القومي التركي في كتابته لملحمة (الشيخ بدر الدين بن قاضي سيماونة) التي دونها في سجنه الطويل سوى إن هذا الشيخ استطاع قبل ستة قرون من الآن، أن ينشر بين صفوف الشعب التركي أفكار المساواة التامة بين البشر من دون النظر إلى الاختلاف في الدين أو المعتقد سائلا سؤال الحرية ودافعا حياته ثمنا لنضاله في هذا السبيل. إذ اثارت آراءه في الاقتصاد بجعل جميع الممتلكات والأراضي ملكية مشتركة للجميع، وإلى تحليل بعض الأشياء المحرمة في العقيدة السلفية اهتماما كبيرا بين صفوف الجماهير، مما أهله لأن يكون قائدا لأولى الثورات الاجتماعية الكبرى في تأريخ تركيا. وحاول بعض ادعياء اليسار من المثقفين في تركيا آنذاك أن يتهموا ناظم حكمت بالقومية الضيقة والانحراف عن السياق الثقافي للشيوعي الحر ودمغوا الملحمة بوصمة التنافي مع الماركسية زاعمين بأن الشعور (بالكرامة القومية) غريب عن البروليتاري الاممي. وللرد على هذه الاقاويل شعر ناظم حكمت بضرورة إضافة (هامش) ما لملحمته، فنشر في عام 1936 هامشا يحمل عنوانا متهكما (الكرامة القومية) وكان هذا الكراس أو الهامش مثلما هو واضح من عنوانه وفحواه ردا على الانتقادات من جهة، ووسيلة ناجعة للتعريف بمقال (لينين) الذي كان عنوانه (كرامة الروس القومية) في تركيا من جهة أخرى.. أي أنه نقد المتقولين وردهم من مرجعيتهم الثقافية والايديولوجية نفسها. 

ولمن يقرأ الملحمة بتجرد ايديولوجي يجد أن تركيز حكمت في سرديته الشعرية كان على بطولة المتصوف الزاهد الشيخ بدر الدين ومريديه ومقاومتهم الفذة للولاة والسلاطين العثمانيين، وإثارتهم للمشاعر القومية والشعبية في صفوف الفلاحين ضد الاقطاعيين والملاك البرجوازيين، ولم تكن له علاقة بالسيرة الدينية أو العقائدية للشيخ أو عملية تقديسه وتأليهه من قبل مريديه. ركز حكمت في ملحمته على الطبيعة الخلابة في الريف التركي، وتحولات الفصول بقسوتها ولطفها على الإنسان والاداء العملي والعلمي للشيخ في التعاطي مع المجتمع الفلاحي، وتثوير القيم التنويرية والتربوية فيه، والاستهداف البشع للشيخ ومطاردته وخطفه من قبل الوالي العثماني، ومن ثم قتله وصلبه بعد إقامة محكمة شكلية له حللت دمه وقتله وحرمت أخذ أمواله، لأن لا أموال له! 

وجاءت عملية التفكير بكتابة الملحمة من قبل ناظم حكمت من خلال اطلاعه على رسالة تحمل عنوان (بدر الدين قاضي سيماونة) طبعت في مطبعة الأوقاف الإسلامية عام 1925 لكاتبها السيد محمد شرف الدين أفندي، ويبدو إن هذا الأخير من وعاظ السلاطين، بحيث راح يتهكم ويسخر من مقولات الشيخ بدر الدين ومريده مصطفى في جعل ملكية كل الممتلكات عدا النساء من ارزاق وملابس واراض وعقارات وغيرها ملكية مشتركة للجميع. ارَقت فكرة اعادة الاعتبار للشيخ بدر الدين وعي ناظم حكمت في معتقله طاويا الليل بالنهار مفكرا في كيفية الدخول إلى عوالم الشيخ المصلوب، بنسق كتابي يظهر شعريته على صعيد اللغة ومسلطا الضوء على خطاب الحرية والمساواة الذي جاء به الشيخ، وتتداخل الأصوات في مدونة حكمت ببوليفونية متعددة وسراد متكاثرين وحكاية إطارية وبناء مورفولوجيا جديدة للحكاية التأريخية تنطلق من سجن ناظم حكمت نفسه في مكانها وزمانها ليصل إلى لحظة كشف الاسرار وبوحها، إذ يكتب: (قرأت سطرين مما كتبه كاتب أسرار الجنوبيين حتى طرق سمعي صوت .. اخترق حجاب آلام الصداع التي كنت أحس بها.. وكان هذا الصوت، يقول: إنني قادم إليك من فوق امواج البحر دونما ضجيج). (1) ثم يردف حكمت قائلا: (أمعنت نظري من خلال القضبان في هذا الذي يقول هذا الكلام منتصبا خلف النافذة واقفا بطوله على الرغم من استحالة تمسكه بأي شئ على الجدار ملفوفا بعباءة بيضاء ناصعة). (2) 

ليأخذ الشيخ بيد السجين ناظم حكمت في رحلة طويلة عبر الحقول الغناء والبحيرات المتجمدة والمعارك الدامية وصولا إلى لحظة خطفه ومحاكمته واعدامه، ونرى من وجهة نظرنا أن هذا الاستدعاء التخيلي للشيخ بدر الدين من قبل حكمت في مدونته يتناص ويتعالق بقوة مع استدعاء المستشرق الفرنسي (لويس ماسنيون/1883ـ 1962) لطيف المتصوف البغدادي (الحلاج) عندما سجن أو اخفر موقوفا إلى سجن في بغداد عام 1908 قادما اليها من القاهرة بعد أن اعتبرته السلطات العثمانية جاسوسا ، باحثا عن قبر الحلاج ومتيما به فجاءه في الحلم بهيئة قدسية مهيبة وهو قابع في السجن ، فهل قيض لناظم حكمت أن يقرأ كتاب (آلام الحلاج ) لـ (ماسنيون) المطبوع طبعته الاولى باللغة الفرنسية عام 1922، وصدرت طبعته العربية بعد زمن طويل من عام 2019 في دمشق عن دار نينوى السورية في أربعة أجزاء، أم أن هذا التناص جاء بمحض توارد خواطر كتاَب فيما يكتبون وجنوح في مخيلتهم وشعريتها. والعجيب إن سيرة الحلاج وطريقة محاكمته واعدامه وصلبه تشابه في كثير من تفاصيلها وثناياها الشكل الذي صفي به الشيخ بدر الدين، وكأنها متوالية تكرارية دائرية في تصفية المنشقين والمناوئين للسلطات الرسمية من الذين يحملون خطابا تنويريا وثوريا للمجتمع ساعين إلى تغييره.

1 - ناظم حكمت، ملحمة الشيخ بدر الدين ابن قاضي سيماونه، ترجمة: فاضل لقمان، بيروت  (دار الفارابي للنشر، 1979) ص15.

2 - المصدر السابق، ص16.