تاريخٌ مشتركٌ من إشارات متبادلة للحرب الباردة
ديفد سانجر وجوليان بارنز وفيفيان يي وأليسا روبن
ترجمة: أنيس الصفار
رغم كل المخاوف من اندلاع قتال في منطقة الشرق الأوسط تكون نتيجته انجرار الولايات المتحدة واسرائيل وإيران الى حلبة المواجهة المباشرة مع بعضهم، ثمة سمة مثيرة للاهتمام اصطبغ بها الصراع حتى الآن، وهي شدة الحرص الذي تبديه طهران وواشنطن، كل من جانبه، لتحاشي وضع قواتهما في تماس مباشر مع بعضها. لا يعلم أحد الى متى سيستمر هذا الحال، كما يقول الدبلوماسيون الأميركيون والأوروبيون وغيرهم، ولكن بعد مرور اربعة أشهر على بدء الصراع تشير تقديرات معظم اللاعبين الاساسيين إلى أن إيران قد حركت حلفاءها في المنطقة لإثارة المتاعب للقوات الأميركية.
وممارسة الضغط على اسرائيل والغرب في العراق وسوريا ولبنان، وممرات الملاحة في البحر الأحمر مع بذل جهد خاص في الوقت نفسه لتفادي اثارة اندلاعات أوسع نطاقاً. هي رقصة من اشد الرقصات رهافة ودقة.. مفعمة بالإشارات الخفية.. هجمات ومخادعة.. وأفعال يسهل التنصل منها. دلائل هذا الحذر ومضات مبعثرة، لكنها ملحوظة في كل مكان.
رسائل صامتة متبادلة
فبينما كانت طهران نشطة في تصعيد وتائر انتاج اليورانيوم جذرياً طيلة الاسابيع الماضية، مجددة المخاوف بذلك من انها قد تكون عادت تحث الخطى صوب اكتساب القدرة على صنع عدد من الأسلحة النووية، حافظت بمنتهى الحرص على إبقاء نشاطها دون عتبة الوقود، الذي يمكنها من صنع القنبلة لعلمها أن هذا هو الخط الأحمر الذي قد يؤدي الى إطلاق رد فعل عسكري ضد مجمعاتها النووية تحت الأرض.
مثل ذلك تفعل اسرائيل. فحينما أقدمت على قصف إحدى ضواحي بيروت مطلع هذا العام، واغتالت قيادياً من حماس نفذت هجومها بدقة شديدة، على خلاف حملتها في غزة، تجنباً لإلحاق الضرر بمقاتلي حزب الله الموجودين قرب الموقع. بذا أوضح المسؤولون الاسرائيليون لحزب الله، بأنهم لا يرغبون في تصعيد الضربات المتبادلة معهم عند الحدود الجنوبية للبنان. لكنها بعد ستة أيام أقدمت على اغتيال وسام حسن الطويل؛ أحد قادة قوة النخبة التابعة لحزب الله، وأرفع ضابط يقتل للحزب حتى ذلك الحين. وعندما أغارت الولايات المتحدة على منشآت الاطلاق التابعة للحوثيين، من اجهزة رادار ومستودعات اسلحة، في اليمن حرصت على أن تجعل ضربتها ليلاً بعد الإعلان عن نواياها بكل وضوح، كما تفادت استهداف قيادات الحوثيين، التي تقف وراء أزمة حركة الملاحة في البحر الأحمر.
يقول الدبلوماسي الأميركي السابق رايان كروكر إنه "مهما بلغت ايران درجة الرضا عن نجاحها في الشرق الأوسط فإن الحرب الشاملة لن تأتي في صالحها، نظرا للمشكلات التي واجهتها طيلة السنوات الأخيرة، لأن أهم ما يهم القيادة الإيرانية هو استقرار البلاد". كما إن الولايات المتحدة هي الأخرى حاولت ابقاء المواجهات ضمن نطاق الاحتواء ومنع
توسعها.
بيد أن التاريخ مفعم بالمحاولات الفاشلة للنأي بالجنود الأميركيين عن الصراعات التي تحدث في النصف الآخر من العالم، والتي لا يلبث أن يتصاعد زخمها حتى تخرج عن السيطرة، وهو ما يكشفه بوضوح دخول الولايات المتحدة معمعة الحرب العالمية الأولى سنة 1917 والحرب العالمية الثانية سنة 1941، ثم الحرب الكورية سنة 1950، وحرب فيتنام تدريجياً طيلة أعوام الستينيات. فالحوادث والاغتيالات وغرق السفن وانظمة توجيه منحرفة؛ كلها أسباب قد تؤدي الى تقويض اشد الستراتيجيات
دقة وتخطيطاً. مع ذلك نرى أن حزمة مماثلة من الكوابح والقيود غير المعلنة نجحت في أوكرانيا بعد مرور نحو عامين، الأمر الذي أثار دهشة حتى مساعدي الرئيس جو بايدن المقربين. فقد كان بايدن يوجه الجيش الأميركي بأن لا يدخر وسعاً لتقديم الدعم لأوكرانيا- طالما امتنعت القوات الأميركية عن المواجهة المباشرة مع القوات الروسية؛ برا وجوا وفي البحر الأسود. وأوصى الرئيس بايدن أوكرانيا ايضاً بعدم استخدام الأسلحة الأميركية لضرب اهداف داخل الاراضي الروسية، ورغم هذا يبقى القلق قائماً بشأن ما سيحدث لو ان صاروخاً روسياً أصاب هدفاً في إحدى دول حلف الناتو المجاورة لأوكرانيا.
وضع البحر الأحمر
بين موسكو وواشنطن تاريخ مشترك من الاشارات المتبادلة يمتد لما يقرب من 80 عاماً، منذ ايام الحرب الباردة، وهذا التاريخ كثرت فيه المحادثات المباشرة عبر الخطوط الساخنة في أعقاب الأزمة الكوبية. أما في حالة إيران فلا وجود لمثل هذا التاريخ ولا لخطوط تواصل مباشرة تضمن بقاء وضع التصعيد المتحكم به "قيد السيطرة".
كلما ظهر مسؤولو المخابرات الأميركيون في المقابلات، اعلنوا ان تقييماتهم لا تزال تفيد بأن إيران غير راغبة في حرب أوسع نطاقاً، حتى وهي في أوج اشادتها بعمليات الحوثيين في البحر الأحمر. تخلص حجة هؤلاء المسؤولين الى ان المطلوب من حلفاء إيران وأعوانها يبقى متمثلاً في التوصل الى طرق لتوجيه الضربات الى اسرائيل والولايات المتحدة، دون اشعال فتيل حرب من النوع الذي تريد طهران تفاديه.
كذلك لا يتوفر دليل مباشر، كما يعتقد هؤلاء، على ان كبار القادة الإيرانيين – سواء قائد فيلق القدس او المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي– هم من يعطون الأوامر بشن الهجمات التي ينفذها الحوثيون على السفن في البحر الأحمر. ولكن ما من شك بأنها تدعم أفعال الحوثيين، كما تشير تقييمات اجهزة المخابرات الى أن تصعيد الصراع من وجهة نظر المسؤولين الإيرانيين سيفاقم الاعباء والتكاليف على الغرب من دون حاجة للمجازفة او الانغماس في حرب أوسع، بحسب المسؤولين الأميركيين. تكشف معلومات رفع البيت الأبيض السرية عنها أن إيران تزود الحوثيين بالأسلحة، ولو ان قدرة هؤلاء قد تزايدت كما يبدو على إنتاج كثير من اسلحتهم الخاصة بأنفسهم، بضمنها الطائرات المسيرة التي يتم تجميعها من اجزاء مستوردة من الصين ومجهزين آخرين. ويعتقد المسؤولون الأميركيون ان السفن والطائرات الإيرانية تزودهم ببيانات الاستهداف، لكن وكالات الاستخبارات الأميركية، تعتقد أن الحوثيين تنظيم مستقل وأن إيران لا تملي عليهم عملياتهم يوماً بيوم، حسب ما أفاد به مسؤولون أميركيون مؤخراً.
يقول رايان كروكر، الدبلوماسي الأميركي السابق الذي عمل في لبنان والعراق وأفغانستان وباكستان: "السؤال الكامن في قلب هذا كله هو: الى اي مدى توجه إيران افعال حلفائها، وكم منها نابع عن مبادرات ذاتية؟"
يعتقد كروكر ان قوة التأثير والفعالية التي يتمتع بها آية الله خامنئي تفوق ما كان لسلفه، او حتى لنظام الشاه، من حيث بسط نفوذ بلاده على ارجاء المنطقة. إلا انه لا يستطيع
الجزم حتى الآن بشأن مدى سيطرتها المباشرة.
قال كروكر في مقابلة اجريت معه: "ما زلت أبحث عن جواب وافٍ، فقد يتراءى للمرء ان السيطرة والقيادة في حالة حزب الله أقوى مما لدى حالة حركة حماس." لكنه يعود فيؤكد ان بوسعه الافتراض أن حلفاء إيران جميعاً على المستوى الستراتيجي يتلقون التوجيهات منها، على أقل تقدير.
الردود الموزونة
يشير خبير سياسات الشرق الأوسط عدنان طباطبائي الذي يتركز بحثه حول العلاقات الإيرانية السعودية، الى ان الرد الإيراني على عملية اغتيال قائد فيلق القدس، وبطل إيران القومي، اللواء قاسم سليماني التي أمر بها "دونالد ترامب" مطلع العام 2020 قد جاء محسوباً بدقة شديدة. وما أعقب ذلك من أحداث؛ يصفها طباطبائي بأنها كانت أزمة ردع قاسية الوقع على إيران. فعلى مدى العامين التاليين نفذت اسرائيل عمليات عميقة الأثر في الداخل الإيراني شملت اعمال تخريب ضمن محيط موقع ناتانز للتخصيب النووي واغتيال العالم الذي يرتكز عليه البرنامج بوسائل موجهة عن بعد. لكن إيران تمكنت خلال السنوات الأربع التالية من ترسيخ وتطوير قوات حلفائها بشكل واسع حيث جهزتهم بأجيال جديدة من الأسلحة واكسبتهم القدرة على تجميع اسلحتهم بأنفسهم مع اعطائهم مزيداً من التدريب. من بين جميع القوات المتحالفة مع إيران قد يشعر الحوثيون بأنهم الأكثر حرية في العمل، بعيداً عن اشرافها المباشر لأن جذور ارتباطهم بطهران ليست بمثل عمقها لدى حزب الله، كما أنهم اثبتوا امتلاكهم قدرة تفوق حجمهم على تعطيل حركة التجارة العالمية، حيث تسبب الحوثيون بإصابة شركتي "تيسلا" و"فولفو" بنقص مؤقت في قطع الغيار، الى جانب تسببهم برفع اسعار الطاقة. لقد دمرت القوات الأميركية والبريطانية نحو 30 موقعاً للحوثيين داخل اليمن لكن هذه الجماعة لا تزال محتفظة، بحسب مسؤولي البنتاغون، بنحو ثلاثة ارباع قدرتها على إطلاق الصواريخ والطائرات المسيرة على السفن التي تمر عبر البحر الاحمر. وليس من الواضح إن كانت الحركة قد ارتدعت بعد ذلك أم أنها لا تزال على قناعتها بأن واجبها يحتم عليها الرد والانتقام.
كتب المحلل المحافظ محمد إيماني في عمود نشرته وكالة فارس الإيرانية شبه الرسمية للأنباء: "ضرب المقاومة اليمنية لن يحل أي من عقد الستراتيجية الأميركية، تماماً مثلما فشلت في حل عقدة فيتنام او افغانستان"، واصفاً الضربات بأنها "عبث في عبث". أما الإيرانيون فهم يواصلون الإشادة بالحوثيين، إذ أثنى الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي عليهم مؤخرا عبر خطابه الأخير، ووصفهم بأنهم "شجعان مقتدرون لا يتهيبون من احد في دفاعهم عن شعب فلسطين المضطهد"، واستشهد بالضربات الحوثية ليحث الدول الاخرى على تقديم الدعم للفلسطينيين، معلناً: "اذا ما اتيحت الفرصة لشعوب الدول الاسلامية فسوف ترون جيوشاً متأهبة تريد التوجه الى فلسطين."
التهوّر الاسرائيلي
يقول الدبلوماسيون في الشرق الأوسط إنهم يشعرون بالقلق لأن ما تبديه الحكومة الاسرائيلية المتشددة لاحتواء الصراع اقل بكثير مما ترجوه إدارة بايدن. بل تذهب نظريات البعض الى حد الخشية من أن يرى بعض المتشددين أن بوسعهم تحقيق مصالحهم، عن طريق ضرب حلفاء إيران لجر الولايات المتحدة الى مواجهة اكثر مباشرة.
تقول سنم وكيل، خبيرة الشؤون الإيرانية من منظمة "جاثام هاوس" للأبحاث: "ما تحاوله إيران هو نقل الصراع الى الخارج، لأن خطوطها الحمراء هي الحدود الإيرانية. إنها على استعداد تام في المرحلة الحالية للمراهنة في انحاء المنطقة، ولكن ليس داخل حدودها." بيد أن الستراتيجية المذكورة لا تخلو من مخاطر عليها، لأن خيارات بايدن في جعل الرد الأميركي متوازناً من حيث الشدّة، سوف تضيق كثيراً إذا ما سقط جنود او متعاقدون أميركيون صرعى في هجوم للفصائل الحليفة – وهو أمر كان قد حدث خلال الفترة الأخيرة. يقر المسؤولون الأميركيون أن الضغط سيشتد على الإدارة لتوجيه هجمات مباشرة ضد إيران إذا ما لقي أميركيون مصرعهم بالفعل.
يقول ريمان الحمداني، محلل الشؤون اليمنية وله دراسات في العلاقات الإيرانية الحوثية: "لقد سار الأمر سيراً طيباً حتى الان بالنسبة للإيرانيين، ولكنه آخذ بالاقتراب من نقطة الخطر. فإذا ما ارتكب أحد الوكلاء هفوة واحدة واساء اختيار المكان والزمان فإن خطر اندلاع حرب في المنطقة سيكون حقيقياً."
عن صحيفة نيويورك تايمز الأميركية