حقائق أخرى

ثقافة 2024/02/19
...

  ياسين طه حافظ

ربما أوحى العنوان بتجاهل أو بجهل، أمور أخرى. أو أنه يشير الى وجوه ثانية مختلفة غير التي عرفناها. ونحن حقيقةً لا نبتعد كثيراً عن هذا وإن لم نقصده تحديداً. ففي الحياة مما نتوهم أو يخفى عنا، الكثير. وذلك بسبب معرفة أخرى غير أكيدة عنه، نرى أنفسنا على ثقة وعلم فيه. وفي حال كهذه يتوجب الكلام لتكتمل معرفتنا أو لكي لا تظل على خطأ يضللنا ولا ندري.  من بين هذه «الحقائق الأخرى» ما كشفه الزمن وتطور المعرفة، فجاء بما هو أكثر صواباً مما رسمته مخيلتنا أو ترسخ في ذاكرتنا. إن مفهومات أو تصورات كهذه تظل عادةً تشغل حيزاً في عقولنا مطمئنة وحتى تلفتنا حاجة فننتبه لوجوب تعديلها. ولكي أبتعد عن الذهنية والتجريد أذكر أمثله لخطأ تصورنا أو فهمنا أو لعدم دقة معرفتنا لكثير مما نظننا نعرفه!
فأسأل: كم من المتأدبين أو من المهتمين بالثقافة من أهل الفن والأدب يمتلك تصوراً عن مساحة، تركيبة أحياء، تنظيمات، أو عن الشكل التقريبي، لمدينة «أور» وهي مدينة عراقية أولى وشاهد اثري وحضاري لنا وللعالم؟، هل يصدق أحد أن مساحة اور (في القرن السابع عشر قبل الميلاد) كانت ثلاثة أرباع الميل طولاً ونصف الميل عرضاً؟ هذه كلها، وليست هي تلك الكبيرة التي في أذهاننا. هذه واحدة من «الحقائق الأخرى» وما يكملها أيضاً، أن هذه المساحة كانت تحتفي بتنوع الحياة فيها، فكانت فيها بعيداً عن حضور المعبد وقصر الملك، «أحياء خاصة» في جميع أنحاء المدينة، للخبازين وعمال الفخار والصباغين.. لم تختلط الأحياء وتشتبك ولكن للحرف تجمعاتها ويمكن الوصول الى أي حانوت أو حرفي في المدينة بعد مسيرة قصيرة والمدينة واحياؤها كلها محاطة بسور. ويشرف المعبد على المدينة. أور هذه غير التي نظن أو التي كنا نتصور، لا مساحة ولا تنظيماً.
والحقيقة الأخرى، قد تكون حقيقة صادمة وهي حقيقة القانون أو حقيقة حمورابي.
حمورابي «العظيم» صاحب المسلة، المشرّع الأكبر».. الخ، لا نكذب ذلك فحمورابي شخصية بارزة في التاريخ ومسلته شاهد عالمي يشاد له في الدراسات والتشريع، ولا أحد يتجاوزه. لكن هذه الصورة البانورامية الفخمة تخفي عنا «حقائق أخرى»: أن حمورابي، صاحب المسلة والقانون واحد من أفظع الحكام وأتعسهم وأشدهم ظلماً وشراسة وسوءاً!، قد يكون هذا الكلام صادماً، فقد صدمني أنا قبلكم قبل سنين وحين قرأت كتاب «حمورابي وعصره» الذي ترجمه د. غازي عن الالمانية ونشرته دار الشؤون الثقافية الكتاب مفزع حقاً. وحمورابي ليس الذي نأنس له، بل الذي نفزع منه. فضلاً عن أن المسلة لم تكن الأولى، سبقتها مسلات. هو جاء بما يناسب حكمه وجبروته، ويبدو أن القوانين كانت لحكم الناس لا لإنصافهم وحمايتهم. كان حمورابي «العظيم» يستبيح من لا يأتي له بالغلة أو نسبته من الحاصل، ساء الموسم أو مرض الزارع، كان يستبي عياله، يدق عنقه أو يسلخ جلده ويصادر من يختار من نساء أسرته، لا يشفع للفلاح ظرف سيء ولا مرض ولا أي من الأسباب، والموت لمن يظفر به وقد هرب بجلده
لينجو!
ما ورد في الكتاب يقلب انطباعنا السابق عنه ويرينا الوجه الأسود المخيف للطغاة الذين يدعون العدالة.. الكتاب يقول لنا ما يعني أن الطغاة يحكمون بثقافة خلاصتها أن البشر خلقوا لخدمة وعبادة الملك. وسنرى هذه الحقيقة أيضاً آخر المقال!
المهم أننا صدمنا بحقائق أخرى غير التي عندنا، ولكنها، في كل حال، منحتنا بصيرة لنرى الحياة وحقائق الناس والحاكمين. أنا لم أكن غافلاً عن القوانين الأساسية التي تحكم المجتمعات وتقوم عليها الأنظمة ثم حكم البلدان والشعوب. فأنا أعلم، أو علمني الاقتصاد، كما علمتني «أخبار الأمم» أن المدن، عموم المدن، ما كانت يوماً تضم ناساً متساوين. وأن الذين يملكون المال يملكون السلاح ومن يملكون المال والسلاح، يملكون القتلة ومن يملكون القتلة تخشاهم الناس فيرضخون لهم..
وبودي هنا أن أعلق على قول أستاذ الاجتماع، ماكس فيبر، بأن المدن الاوروبية ظهرت بوصفها نظاماً متقدماً للناس المتساوين..
أقول، ما كانت أية مدينة على الأرض يوماً مجتمعاً للناس المتساويين، ولكنها على مدى التاريخ، لم تتجاوز «الحقائق الأخرى» التي تحدثنا عنها. والمدينة الأمريكية التي نحسدها على الترف والجديد اللامع والمثير مما حُرِمنا منه، تخفى حقيقتها الأخرى، إنها ملاذ آمن للأغنياء وسوق عمالة للفقراء. أما أواسط الناس، فلا يملكون ترف البقاء فيها. و»الخدم» العاملون لا يرون منها غير وسائط النقل تأخذهم الى العمل وتعيدهم. وهي حقيقة أخرى» يخفيها النيون واللافتات والبرامج الفضائية..
وأنا أختتم كلامي، أرجو حين نقرأ الأدب القديم أو الجاهلي وحتى الحديث، ألا تأخذنا الدهشة والاعجاب بـ «النوادر»، عما وراءهما من مِحَن وعذابات إنسانية. جانب من البشر في جحيم العيش، والصحف تصدر والفضائيات تتلامع شاشاتها والقطارات والخطوط الجوية.. ولا أحد معني حقيقةً بأحد! ولو قمنا بتصفية مفردات الواقع المعيش، لوجدنا أنفسنا ثانية بأزاء حقيقة الملك – الاله والشعب الذي وجِد ليخدمه ويعبده - وقد تغير شكل الملك، أو الملوك. هي «حقيقة أخرى» مهذبة قليلاً ولكنها مؤسفة، وليس لنا غير أن نقول «نعم»
ونمضي.