أ.د. أحمد علي محمد
من خلال قراءتي رواية «الشوك والقَرَنفُل» ليحيى السنوار، نبت في دواخلي إحساسٌ، من جهة صدقها ومطابقتها للواقع، يوحي بأنّها أُلّفت لهذه المرحلة التي تعيشها المقاومة الفلسطينية اليوم، وبتفصيلات مدهشة، وإن كنت لا أريد أن أستعرض كلّ ما جاء فيها، وهو أهلٌ للاستعراض، لكنني أكتفي بالوقوف عند بلاغة مقولاتها السردية، مع تقديم ومضات خاطفة لأهمّ الأحداث التي انطوت عليها، فهذا كما أظنّ يكفي لتسليط الضوء على عمل نادر امتزج فيه القول بالفعل، وانصهرت فيه النّظرية بالممارسة، وهو أمر لم يعرفه الأدب الروائي من قبل، كما أظنّ.
قضى السنوار ثلاثةً وعشرين عاماً في سجون الاحتلال الصهيوني، وكان قد باشر في كتابة روايته «الشوك والقرنفل» وهو في السجن، ثم نشرها عام 2004، والرواية سيرة ذاتية للكاتب، وإن أراد التخفي وراء شخصية الراوي «أحمد» الذي قدّم معلوماتٍ شخصيةً عن نفسه، حيث ولد بطل الرواية عام 1962، في قرية الفالوجة التي احتلها الصهاينة عام 1948، وهنا نلحظ أنّ المؤلف أخفى مكان ولادته الحقيقي، وهو قرية «مجدل عسقلان»، مع ذكره تاريخ ميلاده الحقيقي، والسبب في ذلك استكماله التسلسل الدرامي للرواية. وضمن التفصيلات التي ذكرها الكاتب هنالك حكاية كفاح مثيرة، تبدت عبر سلسلة من المسائل الفكرية المتنوعة التي أسهمت في تكوين الوعي لديه، ومن ثم إدراكه جوهر الصراع بين الفلسطينيين والصهاينة، لهذا جعل الرواية مجموعة من المحطات التي قامت على الصراع العسكري، بدءاً بنكسة حزيران وانتهاءً بسنة 2000-، حتى كأنه أراد أن يحلل تلك الحروب التي خاضها العرب ضد إسرائيل، ليستخلص في النهاية الرؤية التي تجعل منه شخصا مؤثرا في ذلك الصراع.
حين نشرت رواية «الشوك والقرنفل» لم يكن المؤلف معروفاً في عالم الرواية، كما أنه لم يكن معروفًا في الحياة السياسية، وهذا ما دعاه إلى تعريف نفسه على غلاف روايته فكتب: «الشوك والقرنفل، تأليف الأسير يحيى السنوار أبو إبراهيم»، ثم بدأ روايته بصورة لا تتجاوز التداعيات التي تخامر ذهن أي أسير في زنزانته، يطيّر خيالاته ليفتش الأمكنة التي قضى فيها طفولته وشبابه، ويسترجع صورا لعلاقات كانت قد توثقت مع رفاق صباه، في إطار حياة المخيمات القاسية، يقول: «مرارا وتكرارا تدفقت مياه سيول الشتاء إلى ساحة دارنا الصغيرة، ثم تدفقت إلى داخل هذه الدار التي تسكنها عائلتنا بعد أن هاجرت من بلدة الفلوجة في الأراضي المحتلة عام 1948، وفي كل مرة يدب الفزع بي وإخوتي الثلاثة وأختي، فيهب أبي وأمي ليرفعونا عن الأرض... ولأني الأصغر كنت أتعلق برقبة أمي إلى جوار أختي».
حين كَبُر الطفل تشكّلت في عقله فكرة المقاومة، حين تتلمذ على الشيخ أحمد ياسين، ثم انضم إلى حركة حماس، ليقع بعدها في قبضة الصهاينة أسيرا عام 1988، بعد اتهامه بالتخطيط لقتل جنديين صهيونيين، فحكم عليه بالسجن المؤبد، ولم يتحرر من الأسر إلا عام 2011، من خلال مبادلة 1200 أسير فلسطيني بالجندي الصهيوني جلعاد شاليط.
انطوت رواية السنوار على ثلاثين فصلا، غذتها الذاكرة الجمعية التي اختزنت تفصيلات الصراع العربي الصهيوني، مستعرضةً تاريخ المقاومة الفلسطينية، وما عانى منه الفلسطينيون من تهجير وقمع وقتل وسجن خلال سبعين عاما، وبدت تلك الأحداث تتراءى للكاتب وهو خلف قضبان السجن، لكن هذه التجربة هيأت له تأمل ذاته، كما هيأت له تأمل الواقع، يقول: «هكذا بدأ السجن يتحول إلى مدرسة متقدمة»، إذ تبلور لديه التفكير السياسي من خلال احتكاكه بسجناء من منظمات متعددة كسجناء الجبهة الشعبية بميولهم اليسارية، وسجناء فتح باتجاهاتهم الوطنية، وغيرهم، ليرى في نفسه الشخص الطامح لخوض المعترك السياسي في حال تحرره من السجن، وبالفعل انخرط في صفوف المقاومة ليقود حركة حماس، ويصل بها إلى المواجهة التي نجم عن فعلها البطولي كسر جبروت الجيش الصهيوني في 7 تشرين أول 2023، وهو ما يشير إلى أن السنوار مزج في شخصيته بين القول والفعل، على اعتباره انتقل من عالم الرواية إلى الواقع النضالي الفعلي، بصورة قل نظيرها، وهو ما يظهر بوضوح في المقولات السردية التي نجدها في روايته.
تمثل المقولات السردية في رواية السنوار مواضع الصّلابة فيها، حيث تحمل تلك المقولاتُ القارئَ على الدهشة، كقوله في مقدمتها: «هل يجوز لمثلنا ونحن نعيش هذه الحياة، ونرى ما نرى أن نحبّ ونعشقَ يا أحمد؟ حينها قررت أن أنهي قصة غرامي، إذا جاز لنا أن نسميها قصة غرام، إنّ قصتنا قصة فلسطينية مريرة لا مكان فيها لأكثر من حبّ واحد، وعشق واحد». وهو جانب يحيل على خلق وعي جديد ينقل القضية الفلسطينية من حيز الصراعات السياسية القائمة على اعتبارات وتوازنات دولية وإقليمية، إلى صراع وجودي يقضي بأن فلسطين لا تتسع إلا للوجود الفلسطيني، وهو اعتبار حتمي في رأي السنوار، أو بحسب تعبيره هو التطرف في العشق، يقول:» ألم يحن الوقت لجميع مدعي محبة فلسطين أن ينحازوا للتطرف في عشقها بدلا من إقامة المؤتمرات والشجب والندب؟»، وعلى هذا النّحو قدمت المقولات السردية فهماً جديداً لطبيعة الصراع، يقول:» بدأنا نفهم أنّ للصراع وجهاً آخر غير ما كنا نعي وندرك من قبل، فالمسألة ليست فقط مسألة أرض، وشعب طرد من هذه الأرض، وإنّما هي عقيدة ودين، معركة حضارة وتاريخ ووجود». وفي ضوء هذا الوعي كان لا بُدّ من أنموذج لتحقيق ذلك الوجود، تمثل بعودة صلاح الدين الجديد، يقول: «أتساءل في نفسي: هل من صلاح الدين لهذه المرحلة؟»، وفي النهاية لا يجد بُداً من رغبته في لعب دور في الفعل المقاوم، ليقول: «جاء دورنا في المقاومة»، عن طريق التحوّل من فكرة الفدائية التي تعتمد على الكر والفر، إلى فكرة المقاومة الثابتة التي تواجه المحتل بالتصنيع العسكري، وإن بدت الإمكانيات محدودة إلا أنّها برأي السنوار كافية لتمزيق الجيش الصهيوني، وهو ما حدث بالفعل في السابع من تشرين الأول عام 2023، مما يدل على عمق الرؤية في هذه الرواية.