نظرة إلى البحوث حول السعادة

بانوراما 2024/02/19
...

 آمبر دانس
 ترجمة: مي اسماعيل

من التأمل إلى الابتسام؛ يوجه الباحثون أنظارهم اليوم مرة أخرى الى دراسات تدّعي كشف ما يجعل الناس سعداء.. كلنا نرغب أن نكون سعداء، وقد حاول علماء النفس لعقودٍ معرفة كيف يمكننا تحقيق تلك الحالة الهانئة. أشارت العديد من الدراسات الاستقصائية والتجارب في هذا المجال إلى مقاربات متنوعة؛ بدءاً من التخلي عن الأشياء إلى الابتعاد عن فيسبوك، وإجبار المرء لنفسه على الابتسام!.
لكن علم النفس شهد انقلابات خطيرة خلال العقد الماضي؛ إذ أدرك الباحثون أن العديد من الدراسات السابقة باتت غير موثوقة وغير قابلة للتكرار. وهذا قاد للجوء الى المزيد من التمحيص في أساليب البحث النفسي؛ وليست الدراسات حول السعادة مستثناة من هذا المنحى. إذاً.. ما الذي يجعلنا سعداء حقاً؟، تحت الفحص الأكثر تأنياً اليوم تبدو بعض المسالك نحو السعادة صامدة، بينما قد تتعثر أخرى، أو على الأقل تحتاج الى إعادة إثبات وجودها. هنا سنعرض ما نعرفه وما هو بحاجة إلى إعادة التقييم؛ وفقاً لتحليل جديد بعد المراجعة السنوية لعلم النفس.

ابتسامة على الوجه
إحدى الفرضيات القديمة هي أن الابتسام يجعلك تشعر بالسعادة.. في دراسة كلاسيكية أُجريت عام 1988 طلب الباحثون من 92 تلميذاً وضع قلمٍ بين أسنانهم (مما يفرض عليهم الابتسام) أو مسكه بالشفاه (مما يفرض عليهم التجهم). وبالتجربة تفاعل المبتسمون إجبارياً بإيجابية أكثر مع صور الرسوم الكاريكاتيرية من المتجهمين. لكن لدى اعادة التجربة في نحو 17 مختبرا بحثيا على 1894 مشترِكا لم تصمد النتائج؛ كما قال الباحثون عام 2016. كان تكرار الدراسة جزءاً من جهد أوسع لمواجهة أزمة التكرار في علم النفس؛ والذي يمكن ارجاعه جزئياً الى تنوع الطرق التي يستطيع الباحثون بها تفسير وإعادة تحليل مخرجات دراساتهم حتى يصلوا الى نتائج قابلة للنشر. تقول "إليزابيث دان" عالمة نفس اجتماعية بجامعة كولومبيا البريطانية في فانكوفر/ كندا لدى المراجعة السنوية الجديدة لبحوث علم النفس: "الامر يشبه إطلاق عدد من السهام على الجدار ثم رسم دوائر الهدف بعد ذلك".
أحد الحلول لهذا ان يقوم العلماء بالإعلان عن خطط التحليل الخاصة بهم أو التسجيل المسبق لها قبل إجراء تجاربهم.. أو بمعنى آخر: رسم دوائر الهدف قبل إطلاق السهام. ركزت "دان" ومساعدوها في تحليلهم على مثل هذه الدراسات المسجلة مسبقاً؛ مما ضيَّق النطاق الواسع لتحليل أسباب السعادة إلى 48 بحثا منشورا فقط. وهو ما قال عنه "بريان نوسيك" عالم النفس بجامعة فيرجينيا: "شعرتُ بالدهشة لهذا العدد من البحوث المنشورة؛ وهذا ما يكشف حقيقة ان نطاق تلك البحوث تبنى الكثير من الممارسات الجديدة لتعزيز الدقة". لكن التسجيل المُسبق للدراسة لا يضمن أن نتائجها ستكون صائبة، كما لا يحل جميع مشكلات قابلية إعادة التكرار في علم النفس. كذلك تتطلب الدراسات النوعية إتباع أساليب سليمة وضمان مجموعات كبيرة ومتنوعة من المشاركين، على سبيل المثال. ولكن حتى تحت (مظلة) نظام التدقيق المتجدد صمدت بعض الطرق إلى السعادة كما وجد الباحثون؛ ومنها- إدامة الشعور بالامتنان والتصرف بشكل اجتماعي وإنفاق المال على الآخرين.  

التصرف المنطلق
طلب الباحثون في احدى الدراسات الحديثة من مئات الآباء والامهات كتابة (تقرير) عن كيفية قضائهم للأسبوع أو كتابة رسالة امتنان لشخصٍ يعرفونه. وكانت النتيجة ان التعبير عن الامتنان جلب مزاجاً أكثر ايجابية.
 وفي دراسة أخرى طلب العلماء من تسعمئة طالب جامعي ان يُعبروا عن الامتنان في رسائل أو نصوص على مواقع التواصل الاجتماعي، أو تدوين ما يقومون به يومياً من نشاطات. وكان تقييم كاتبي الامتنان أنهم كانوا أكثر سعادة ورضا عن حياتهم في اليوم التالي. وفي الحالتين لم يتضح كم تدوم تلك التأثيرات.. أشارت ثلاث دراسات جديدة الى التواصل الاجتماعي باعتباره مفيداً.. في احدى تلك الدراسات كلف العلماء 71 شخصاً بالغاً أن يتصرفوا بشكل منطلق؛ أي يكونوا.."جريئين وثرثارين ومنفتحين ونشطين وحازمين" لمدة أسبوع. وطلبوا من 76 شخصاً آخر ان يكونوا.. "متواضعين وحساسين وهادئين ومتواضعين". أفاد المشاركون في التصرّف المُنطلق بتحسُّن الحالة المزاجية خلال أسبوع الدراسة؛ رغم أن الفوائد كانت أقل بالنسبة لأولئك الذين كانوا انطوائيين بشكل طبيعي. وللمفاجأة؛ دعمت دراسة جديدة (مسجلة مسبقا) مبدأ الابتسام لتعزيز السعادة؛ حينما تحول العلماء إلى دراسة "ابتسامات" أكثر طبيعية! مرة اخرى كشف نحو أربع وعشرين مختبراً من 19 دولة مختلفة عملت معاً لدراسة الفرق بين الابتسامة المفتعلة وبين محاكاة ابتسامة شخص آخر لدى نحو أربعة آلاف مُشارك. أبلغ من قاموا بمحاكاة الابتسامة عن أنهم في مزاج أفضل. واللافت للنظر أن هذا كان صحيحاً حتى لو لم يعتقد الأشخاص أنه سينجح؛ حسبما أفاد فريق دراسة آخر عام 2023.
كذلك وجد الباحثون ان العوامل الخارجية يمكنها تعزيز سعادة الانسان؛ إذ ان إعطاء الناس النقود يعزز الرضا عن الحياة، وكذا كانت التدخلات في تفاصيل الحياة المتقاطعة مع مسيرة العمل ومكانه؛ مثل القيلولة. لكن دان تُحذّر ان المشاركة في الدراسات مسبقة التسجيل تنحو لإحداث تأثيرات صغيرة على السعادة بشكل عام؛ ويرجع ذلك جزئياً إلى عدم قدرة العلماء على نشر البيانات للحصول على أرقام أكبر.

أفكار جميلة ونتائج ضعيفة
لم تصل دراسات أخرى لتحليل وسائل تحقيق السعادة الى ما قامت به "دان" ومساعدوها.. على الأقل حتى الآن؛ إذ لم يجد الباحثون أدلة واضحة لفوائد العمل التطوعي وأداء أعمال معروفٍ عشوائية أو التأمل. وعلى سبيل المثال؛ طُلِبَ من المشاركين في دراسة مسبقة التسجيل أُجريت قريباً أن يقوموا بأعمال معروف تجاه الآخرين أو لأنفسهم، أو الاكتفاء ببساطة بتسجيل وقائع أيامهم. وبعد أربعة أسابيع كانت المُحصلة أن أعمال المعروف طيلة تلك الفترة لم تُحدِث فرقاً في مستوى السعادة. ولم تجد دان أي دراسات مسبقة التسجيل إطلاقا حول ممارسة الرياضة أو قضاء الوقت في الطبيعة؛ وهما استراتيجيتان يُوصى بهما كثيراً لنيل السعادة. وهذا لا يعني ان هاتين الاستراتيجيتين ليستا صالحتين (كما ترى دان)؛ لكن المناخ العام للدراسات لم يختبرهما بعد.
وتتفق دان على أن مراجعة الدراسات المتنوعة لم تغطِ سوى قمة جبل الجليد من أبحاث أسباب السعادة. لكن تلك المراجعة يجب أن تتسع؛ مع قيام المزيد من علماء النفس بتسجيل دراساتهم مسبقاً لتكون جزءاً مما يسميه البعض: النهضة في ذلك المجال؛ لأن.. "أبحاث مسببات السعادة تقف على حافة حقبة جديدة ومثيرة.."

• موقع مجلة {ما يمكن معرفته-knowable magazine}