طالب عبد العزيز
السماءُ التي أُفسِدَت بالنجوم لم تأتِ بامطارها بعد، هي أكذوبةٌ في أخبارِ الطقسِ والنوافذ الجديدة، أمَّا الثلجُ الموعودُ فهمهمةٌ، في شجرةٍ متحوِّلة، كذلك يكون الموقدُ أسفلَ السُّلم رائحةَ شتاءٍ غابر في بيتنا القديم، الذي تركتُ المباهجَ نائمةً فيه، وخرجتُ. غرفاته تحتملُ مديحاً قليلاً، مازالت الشمسُ تقصدها، نازلةً، تطمئِّنُّ على سلامةِ آخر أجاصةٍ فيه. رتبتُّ أيام الأُسبوع على الطاولة: كلُّ كاس تأخذ نشوتها من التي تليها، وكلُّ بلبل في قفص يحدِّثُ آخرَ عن شحٍّ في التوت والزرقة، لهذا هرمُ الوقتُ، وانفتلُ حبلُ الألم طويلاً، وحزيناً من الشُّرفة التي تدلّت منها فوانيسُ ثلاثة أصغيتُ لبائع الانتيكات.
زهور الباقلاء بيضاءُ خلفَ نداءِ الألوان، والفأسُ التي قشطّتُ بها وجهَ اليأسِ أركنتُها في زاوية من الارض، لكأنني أواري كلاماً قديماً، ولم أحمل على كتيبة الدار، كما كنتُ من قبل، فظلَّ الحرفُ كوفيّاً، مائلاً، يحدِّثُ القادمينَ عن بوحِ القصبِ وفضلةٍ في النَّهار، أمّا المنجلُ الذي أهمله أبي لغابة في يده فقد انتصبَ هلالاً، هو يستعيدُ مهابته في حقلِ البرسيم. أنا كففتُ ممجدِّاً، ومثل حكيم صينيٍّ أخذتُ عن الخشب صمته ورضيت، وعن الفقد حبيباً وآنست به، وإلى حيثُ يكونُ مجلسُكِ سأمضي، ضوءٌ قديمٌ يأخذُ بناصيتي إلى طريقٍ،كان الآسُ كلمةً خضراء َفي معجمَها ذات يوم.
من فُرضةٍ، سورُها دُفّلى جئتُ النهرَ ، فسحةَ الترّويةِ التي كانت لأهلي، بظهيرة آب. الماءُ يدلُّ عليها، وإنْ انخسفتْ القناطرُ ، وتناهبت الظلماتُ أصلابهم. أما الخراف التي تجمّعت حولي في حديقة الحُلم فقد فرّقها ذئبٌ، كان ترصَّدها في النَّهار، ومن سنونوةٍ في الوسادةِ جاءني خبرُ الذين علقوا بالخرائط، ويئست تستردهم المفازاتُ. في الجسد الذي يهمدُ طيناً وعوسجاً، ولا تحرِّكُ الريحُ واحدةً من أنفاسهِ بثنيّةِ القميص على الحبل، وفي اليدِ التي تتخشبُ، وتُبعدُ كأسَ النبيذ الآنَ، في خَزانةِ الماهوجني، ضلالة الحروف، وخديعة الخشب والنحّاس .. جاهدتُ ألملمُ وجوههم في قراطيس النجوى.
القادمُ من الآس يتطامنُ مع معتنق السرخسيات، والنازل من مدونة الاترج سلكَ سبيلاً شَبَهاً إلى الليل، وما في اردية الراقصين مجزٍ لليلة أخرى، الحواةُ وجامعو السنادين وخزنةُ المباهج ومطففو المسافات أيضاً.. كلّهم الليلةَ عندي، باعةُ الارّشيةِ، وحملةُ السلالم، والنفَّاطون، ومتبضعو المدن ..كلّهم سكارى في قيعةِ الروح، ولستُ منهم بشيء.
تقول امراةٌ يتبعها جروٌّ ابيضُ: أنا أكملتُ البنسفجَ طريقاً، وأتيتُ.
إنْ رأيتني بحُلّة الليل في النَّهار فلا تسألني، وإنْ راعك ثقبٌ بقميصي تمرَّن على اهماله، وإنْ أغضبكَ صوتي منشداً فذاك لأنني مفجوعٌ بمن تعطَّل من أنهار أبي، وإن وجدتني واقفا في المسافة بين الغياب ونحوه فما أنا بمنتظر أحداً، قد أخرجُ مما يوحشك، لكنني لن أقف على باب صبرك، أنت تتأخرُ في السنادين، وأنا أتعجّلُ الشمسَ والجلّنار. من المباهج عندي مئة، وقد نيّفت على الوهن بسبعين.. تلك اليمامة شقيقتي، وهذا شعري أفرِّقه، كذلك أكون عند دكانة بائع الحلوى، وإنْ كانت وردةُ الخجل آخرَ ما تتزيِّنُ به غمازتاي.
لكنني، وهذا ما لا أريده اليومَ وكلَّ يوم يبيعني الأترجُّ شيخوخةً مبكرةً، فمن يدٍ لم أتبيّنها في الليل تسلمتُ موعداً كاذباً أمس، وإلى حيث ينهمرُ الصَّفصافُ أصفرَ تأخذني بلادٌ لستُ في مواكبها إلا خائفاً. حين تلفتُّ كان النهرُ آخرَ كلمةٍ ربتتْ على كتفي، ومن بابٍ بعيدةٍ، نصفها حلكٌ وظُلمةٌ، ونصفها بوحٌ وسوسن رأيتُ يدكِ تومئُ، أردتُ أنْ أخرجَ من الحُلم عارياً، لكنَّه كان واثقاً من خوفي وقعقعة مفاصلي. ما كنتِ الحائطَ الذي تركتُ ظهري عنده، ولن أكون اللهبَ المنزوعَ من موقد اِنتظارك، فخبّئي الوردَ وراءَ ظهرك، خبِّئيه، ولتكنْ تنورتُك قصيرةً في الزّحام.