مدائح المتنبي ترفُّع المادح وتزلُّف الممدوح

ثقافة 2024/02/21
...

شاكر الغزي

المتنبّي شاعر مدّاح متكسّب بشعره؛ قصره على غرضٍ واحد فقط هو مدح الملوك والسلاطين من أجل النوال والعطايا! هكذا أوهمنا النقّاد ومؤرّخو الأدب العربيّ من مُجترّي الدسائس الأدبية التي حاكها أعداء المتنبي والناقمون عليه.
في البدء، لا بدّ أن أعترف بشيء من الشجاعة أنَّ المتنبي يذكّرني بالإمام علي عليه السلام في الأقلّ في مظهرٍ من مظاهر شخصيته، وهو كثرة الأعداء! فكلا هذين الرجلين قُيِّض له من الحاقدين والحاسدين والمبغضين ما لم يُقيّض لغيرهما من البشر، سواء في حياته أو بعد ألف عام من مماته!.

اجتهد حسّاد المتنبي ومبغضوه ــ أيّما اجتهادٍ ــ في إحاطة حياته (بحكايات ملفّقة حتى ليكاد يشمّ منها قارئها رائحة الافتراء والبهتان) على حدّ تعبير الكاتب إبراهيم عبد القادر المازني. طعنوا في نسبه، وعفّة والدته، ونفوا فروسيته وشجاعته بافتراء حكاوى مضحكة عن فراره خائفاً من غصن شجرة علِق بعمامته! وكبُر عليهم أن يروا فضائل نفسه الكبيرة إلّا على أنّها مرض خلقيّ وجنون عظمة.
ومن ذلك، أيضاً، أنهم اتّهموه بأنه مدَّاح طمَّاع، يقصد بلاط الملوك مستجدياً بمدائحه؛ فإذا لم يُعط انقلب إلى هجّاء بذيء اللسان.
لعلّ من الضروري بدءاً، أن ألفت النظر إلى خلل أكاديميّ يقع فيه الدارسون والنقّاد، وهو تغريض القصائد؛ فهو مزحة سمجة لا أكثر، وقد آنَ الأوان لحذفها من تاريخ الشعر العربيّ؛ فنحن لا نعرف قصيدة ــ من أول الشعر حتى آخره ــ كان لها غرض واحد، بل الذي قرأناه أنَّ النصّ الشعري باعتباره مرآة النفس الشاعرة تتمازج فيه ــ كما فيها ــ الأهواء والمشاعر المتنوعة والمتناقضة. ولا أراني أجانب الصواب إذا قلت إنّه لا يوجد بيت شعري واحد يخلص لغرضٍ ما إخلاصاً تاماً، ولا سيما في الشعر الحديث فليس ثمّة غرض شعريّ وإنما نسيج يتفاوت وفق ما تمليه نزعات الشاعر ورؤاه وفلسفاته.
وتكفي مراجعة قصائد المتنبي في المديح ليعرف المدّعي أنَّ فيها من الاعتداد بالنفس والكبرياء والحكمة العالية والفلسفة الأخلاقية والغزل الأخّاذ أكثر ممّا فيها من المدح! حتى مدحه فيه من الهمم والمطامح الشخصية ما لا يقصره على الممدوح وحده ويجعله وقفاً عليه. ولعلّ أهمّ ما يلاحظ على مدائح المتنبي أنّها لا تصدر عن نفس متصاغرة متذلِّلةٍ أمام ممدوحها!.
شخصياً، أرفض فكرة تغريض قصائد المتنبي بأيّ غرض، ناهيك عن أن يقال بأنها مدائح، وإن كان ولا بدّ من ذلك، فجلّ شعره يدور في فلك العظمة، أعني تبجيل نفسه والاعتداد بها وبكبريائها وبمطامحها العالية، تماماً كما قال فؤاد أفرام البستاني: (حول المتنبي جماعات من شعراء الغزل العفيف والوصف الدقيق والمجون المستملح، ولكننا نراه هو وحده شاعر العظمة)، أو كما قال العقّاد: (هو حيث قلَّبتَ من حكمته أو فخره أو غزله أو رثائه، هو المعتدّ بفضله، الذي لا ينسى شأنه، حتى حين يعزّي المحزون في مصابه).
وأمّا عن تكسّبه بمدائحه، فلا شكّ أنَّ ما رواه أبو إسحاق الصابئ يدحض ذلك الادّعاء من أساسه، يقول الصابئ: (راسلتُ أبا الطيب المتنبي في أن يمدحني بقصيدتين وأعطيه خمسة آلاف درهم، ووسّطتُ بيني وبينه رجلًا من وجوه التجّار، فقال له المتنبي: قل لأبي إسحاق، والله ما رأيت بالعراق من يستحقّ المدح غيرك، ولا أوجب عليّ في هذه البلاد أحد من الحقّ ما أوجبتَ، وإن أنا مدحتك تنكَّرَ لك الوزير (المُهلَّبي) وتغيَّرَ عليك؛ لأنّي لم أمدحه، فإن كنت لا تبالي هذه الحال فأنا أجيبك إلى ما التمستَ، ولا أريد منك مالاً، ولا عن شعري عوضاً).
فأيّ متكسّب بالشعر هذا الذي تعرض عليه خمسة آلاف درهم مقابل قصيدتين، فيؤثر نصيحة طالب المدح على اكتساب المال؟! ثمّ أنَّ هذه القصة نفسها تشير إلى أنَّ الممدوحين أنفسهم كانوا يبذلون الأموال الجزيلة للمتنبي ليمدحهم ــ ولو بقصيدة ــ بل أنّهم كانوا يحتاجون لوساطات ليقبل المتنبي بذلك!.
يقول عبدالوهاب عزّام: (هذه الرواية تُرينا تطلُّع الرؤساء إلى مدح أبي الطيب، وأنّ المُهلَّبي كان راغباً في مديحه، مَغيظاً من إغفاله إياه).
وقد زعم الثعالبي في يتيمة الدهر أنَّ المتنبي ترفّع عن مدح المُهلَّبي ذهاباً بنفسه عن مدح غير الملوك! وهي فرية أخرى يُكذّبها أنَّ المتنبي خلال إقامته ببغداد لم يتطلّع حتى إلى مدح الخليفة المطيع العباسيّ، ولا الأمير معزّ الدولة البويهيّ، وإنّما هو لم يمدح الوزير المهلبيّ لأنّه ازدراه لمّا رآه مستهتراً متخلعاً متمادياً في سخفه، وكان المتنبي صعب الشكيمة، مُرَّ النفس، حادّاً، مُجدّاً، كما يقول أبو القاسم الأصبهاني.
وأما ادّعاء هجوه لممدوحيه بعد تغيّرهم عليه، فلا نجد في ديوانه هجاءً لسيف الدولة رغم التغيّر الذي كان بينهما، ولا لبدر بن عمار أو أمثالهما، وإنّما قصد صاحب الادّعاء الإشارة إلى هجوه لكافور الإخشيدي لا غير، وحاصل ذلك أنَّ مدائح المتنبي في كافور لو تأمّلها المتأمل لوجدها أهاجي كما قال المتنبي:
وما كان ذلك مدحاً له ولكنه كان هَجْوَ الورى
فمدح كافور، في فلسفة المتنبي، هو هجاء للناس، سواء كانوا أهل مصر الذين أمّروا كُويفير العبد عليهم، ورضوا بالمذلة والمهانة، أو كانوا أهل بوادي العراق والشام الذين تواكلوا عن نصرة المتنبي في (قيامه) للمطالبة بـ(حقّه) في إقامة الحكم الذي يبتغي وتضريب أعناق الملوك من أمثاله.
وعلى حدّ تعبير الدكتور شوقي ضيف، فإنّ المتنبي (استطاع بخبرته في الصياغة الشعرية أن يوجّه له مدائح هي في ظاهرها ثناء، ولكنها في باطنها هجاءٌ مُرّ). ويرى المازني أنَّ هذه المدائح لم تكن إلّا تهكُّماً، إذ يقول: (أمّا المدح، فإنّا والله نراه تهكَّمَ به ولم يُثْنِ عليه، وما قرأنا له قصيدة في كافور إلّا عثرنا فيها على بيت أو أبيات تُشعر بأنّ المتنبي كان يركبه بالدعابة ويرى نفسه أجلَّ وأخطر شأناً من أن يمدحه)
وثمّة أمر مهمّ آخر، أودّ أن ألفت إليه أنظار النقّاد الغُفْل، وهو أنَّ الشعر عند المتنبي كان مجرّد وسيلة فقط يتوصَّل به إلى مطمحه الكبير، وليس غايةً في حدّ ذاته، ولكنّه كان وسيلةً مُتقنةً كما ينبغي ومُجوَّدةً بما يليق، وحيث أنّه وسيلة لا غير، كان يستوي عنده مدح كافور وهجوه، كما قال:
أَخذتُ بمدحهِ فرأيتُ لهواً مقالي للأُحيمقِ يا حليمُ
ولمَّا أن هجوتُ رأيتُ عيّاً مقالي لابْنِ آوى يا لئيمُ
وهذا في نظري، هو سرّ عظمة شعر المتنبيّ، وهو أنّه كان مجرّد ترجمان صادق لما يعتمل في نفسه الكبيرة من مشاغل وهموم ومطامح وفلسفات ورؤى.
ولا بأس من التذكير بأنَّ الاتفاق متحصّل ــ تصريحاً أو تلميحاً ــ على أنَّ مدائح المتنبي، وحتى أهاجيه، من عيون الشعر العربيّ، ولكنّ ما وراء ذلك هو الطعن في شخصية المتنبي، لما ينعقد في ذهن الإنسان من تلازم بين مدح الملوك والسلاطين وبين تذلّل المادح وتصاغر نفسه وتملّقه لهم واستجدائه لما في أيديهم من الهبات، غير أنَّ هذا التلازم ليس بحتميّ ولا ضروريّ؛ فأوّلاً، أنَّ نفس المتنبي نفس كبيرة لها من الهمة العالية والمطامح السامية ما لا يحدّه حدّ، وفي شعره الكثير ممّا يفصح عن ذلك، كقوله:
وما رغبتي في عسجدٍ أستفيدهُ ولكنها في مفخرٍ أَسْتَجِـدُّهُ
وقوله:
وفؤادي من الملوكِ وإنْ كانَ لساني يُرى من الشعراءِ
وقوله:
ولكنَّ قلبـاً بيـنَ جنبـيَّ ما لـهُ مدىً ينتهي بي في مُرادٍ أَحُدُّهُ
وثانياً، فسيرة المتنبيّ تدلّ على أنه خالف عادة الشعراء المدّاحين في عصره، وفي كل العصور، يقول الدكتور شوقي ضيف: (الأصل أنَّ الشاعر حين يمدح لا يفكّر إلّا في ممدوحيه، أما المتنبي فكانت تشغله نفسه وكان دائم الذكر لها، ومن ثمَّ جعل مدائحه شركةً بينه وبين ممدوحيه، وهو يضع فيها نفسه أوّلاً). وبحسب تعبير المازنيّ فإنّ المتنبي كان أشبه بصديق لممدوحه منه بشاعر وظيفته الثناء عليه، وفي موضع آخر يُكرّر المازني هذه الفكرة قائلاً: (لم يكن يعدّ شاعراً يُثني على سيف الدولة، ويدوّن وقائعه وحسناته، ويمشي في ظلّه، بل صديقاً وكفؤاً، ولم يكن حيال كافور إلّا كذلك)، ففي بلاط كافور كان المتنبي يقف بين يديه وفي رجليه خُفّان، وفي وسطه سيف ومنطقة، وحوله حاجبان من مماليكه وهما بالسيوف والمناطق! وهذه غاية الشموخ والكبرياء والجبروت ممّا لا يتسنّى لشاعر مدّاح. وحين مدح الشريف أبا القاسم طاهر بن الحسين العلويّ، نزل العلويّ عن سريره، وأجلس المتنبي فيه، وجلس هو بين يدي المتنبي يستمع إلى قصيدته في مدحه! وفي ذلك يقول علي بن القاسم الكاتب: (ما رأيت وما سمعت أنَّ شاعراً جلس الممدوح بين يديه مستمعاً لمدحه فيه غير أبي الطيب المتنبي). وقد اشترط على سيف الدولة شروطاً (لم نسمع في تاريخ الشعراء الطويل أنَّ شاعراً اشترطها على أمير لا قبل المتنبي ولا بعده) كما يقول الغبّان، وهي أن لا يُقبّل الأرض بين يديه كما يفعل غيره من الشعراء، وأن لا ينشد الشعر بين يديه إلّا جالساً؛ إذ كان يستنكف أن ينشد وهو قائم.
يقول المازني: (وفي هذا وحده، فضلاً عن حوادث حياته، دلالة كافية على أنّه من الشخصيات القوية التي خُلقت للكفاح والنضال لا للاستخذاء والتمسّح بالأقدام).
واللافت هنا أنَّ المتنبي لم يكن يتزلف أصحاب النفوذ والسلطان ليمدحهم؛ حتى يُدّعى بأنّه شاعر مدح متكسّب؛ بل أنَّ الملوك والوزراء هم مَن كانوا يتودّدون إليه ويكاتبونه، ويتسابقون في ما بينهم، ويتوسّطون بغيرهم من أجل دعوته وإكرامه وإرضائه؛ ليكونوا من ممدوحيه! بل حتى أنَّ صيغة المدح تبدّلت مع المتنبي ــ على حدّ تعبير الدكتور الغبّان ــ فلا يقال إنه مدح فلاناً، وإنّما صار يقال إنَّ فلاناً (سيف الدولة مثلاً أو كافور) من ممدوحي المتنبي.
ولو أنَّ شاعراً آخر، وقف مواقف المتنبي، لشعر بالضعف والضعة أمام الملوك والسلاطين الذين غضب عليهم وجافاهم وهجاهم، إذ لا يملك شاعر آخر رجولة المتنبي ولا جُرأة قلبه وسطوة لسانه، ولا نفسه التي لا تعرف الهوان والخوار:
وفي الجسم نفسٌ لا تشيبُ بشيبهِ ولو أنَّ ما في الوجهِ منه حِرابُ
يُغيِّرُ منّي الدهر ــ ما شاءَ ــ غيرها وأبلغُ أقصى العُمْر، وهي كعابُ
ولعلّ سيف الدولة الحمداني كان أوفر ممدوحي المتنبي نصيباً، غير أنَّ هذه الوفرة لم تكن كما صوّرها أحمد أمين بقوله: (اتصل بسيف الدولة، يتبعه حيثما كان، ويمدحه في الحلّ والترحال)، فهي مبالغة مفضوحة، تُوهِم القارئ أنَّ المتنبي كان ينظم مدائحه في سيف الدولة ليل نهارَ، أو على أقلّ تقدير قصيدة مدح كلَّ يوم! ولكنّ هذا غير صحيح أبداً؛ وقد يُدهش القارئ حين يعرف حقيقةَ أنَّ المتنبي لم يكن يقول في سيف الدولة أكثر من أربع قصائد في السنة! حتّى أنَّ أبا فراس الحمداني استشاط غضباً ذات يوم، وعاتب ابن عمّه سيف الدولة قائلاً: (إنّ هذا المتسمّى كثير الإدلال عليك، وأنت تعطيه كلّ سنة ثلاثة آلاف دينار على ثلاث قصائد) كما روى صاحب كتاب الصبح المُنبي.
بل قد يُصدم القارئ حين يعرف أنَّ مجموع قصائد المدح الخالصة التي قالها المتنبي في سيف الدولة لم تكن غير خمس عشرة قصيدة فقط طيلة تسع سنوات ونصف السنة قضاها المتنبي في كنفه!.
وليس هذا بمستبعد؛ إذ إنَّ المتنبي ــ على شهرته ــ كان مُقلّاً جدّاً ولم يكن من المكثرين؛ وهذا يدعم ما قلناه من أنَّ الشعر لم يكن غايةً عنده. ليس مُقلاً فقط، بل (هو على إقلاله لا يُطيل قصائده) كما يقول المازني. وقد أحصى الواحديّ أبيات ديوان المتنبي فكانت (5490 بيتاً) فقط، هي كلّ ما قاله طيلة 35 سنة هي كلُّ عمره الشعريّ الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، أي بمعدل 13 بيتاً في الشهر!.
صحيح أنَّ نسبة (27 %) من شعر المتنبي قاله في سيف الدولة، أي ما مجموعه (1512 بيتاً)، جاءت في (38 قصيدة) و(31 قطعة)، ولكنّ هذه القصائد والمقطوعات كان أغلبها في وصف معاركه مع الروم وبعضهنّ في الرثاء، إلّا (15 قصيدة) فقط قالهنّ في مدحه.
وعلى الرغم من علاقة سيف الدولة الوثيقة بالمتنبي، والحفاوة المبالغة التي أحاطه بها، إلّا أنه حين أحسّ بتغيّره عليه ــ بفعل الوشاة والحسّاد ــ غادره متغرّباً لا مستعظماً غير نفسه، ولا قابلاً إلّا لخالقه حكماً، ولكنّه قبل ذلك دخل عليه وعاتبه عتاب الندّ للندّ قائلاً:
ألا ما لسيف الدولةِ اليومَ عاتبا فَداه الورى أمضى السيوفِ مضاربا
وما لي إذا ما اشتقتُ أبصرتُ دونهُ تنائفَ لا أشتاقها وسباسبا
وهذه المقطوعة وصفها المازنيّ بأنّها أشبه بالمحاسبة منها بالمعاتبة!. ثمّ عاتبه عتاباً مُرّاً، معلناً عن مفارقته له، في ميميته الشهيرة: وا حرَّ قلباهُ ممّن قلبهُ شبِمُ، والتي يقول فيها:
إذا ترحَّلتَ عن قومٍ وقد قدروا ألّا تُفارقَهم؛ فالراحلونَ همُ
والتي يقول المازني عنها:
(ليس هذا بكلام مدّاح مأجور، وما كان ليصدر عنه لولا شعوره بنفسه وبحقّه، وأنّه فوق أن يُعدَّ أَحدَ الأذيال)!.