جينا سلطان
حتوتة مصرية تتعاقب فيها الفصول وفقاً لأربعين ابتهالاً يؤطِّر مراحل صعود النفس واستواءها فوق عرش الشيطان المنصوب فوق الماء، ليدغدغ أوهام الذين شبه لهم أنهم أحياء، وما هم إلا أموات ينتظرون لفافة الكفن لتعيدهم إلى الطين الذي تناسلوا منه... حتوتة تضعنا أمام نص مشتعل يتَّقد تحت وطأة التسخين المتواصل الذي يقارب الثالوث المحرم؛ الجنس ـ السياسة ـ الدين، دون أن يقع في فخ الإسفاف أو مطبِّ الإثارة المجانية.
بعبارات قصيرة رشيقة ينتقل الروائي المصري محمد بركة في روايته “عرش على الماء” بين الأحداث السياسية والاجتماعية التي قولبت الشخصية المصرية بين مطرقة الجوع وسندان الكهنوت. وهو ما حتَّم عليه جعل لحية بطله “مشهور الوحش” همزة وصل بين الفوضى المؤدلجة التي تمتص فائض العنف والنقمة لدى العوام والنظام المتكيِّف مع مطامح محرك الخيوط من وراء الستار؛ الشرطي الأميركي. فيمتد شريط الوقائع سريعاً من زمن الإنكليز وسعد زغلول إلى عهد مبارك، بحيث ترصد بدقة تلون شخصية رجل الدين وفقاً لإملاءات “ولي نعمته”، فيرهقه التقلب بين ساداته العرب والأجانب، يتلقّى من هذا صرّة دنانير ومن ذاك تحويلات مصرفية.
يصدر بركة روايته باعتراف مشهور بأنه سينتقم، وبأن عذابها سيشهده طائفة من المؤمنين. ثم ينحو باللائمة على الأم التي حولته في الماضي إلى شبل ساذج تتخاطفه الضباع، فمهّدت لابنته كي تكتب شهادة وفاته كأسد عجوز يتوارى مطروداً في الغابة السوداء. وتلك المقدمة تعفي الابتهالات الملغَّمة من المساءلة، فتغدو مفتاحاً لفهم الشخصية المصرية التي تختبئ خلف قناع السخرية لتواجه القهر الذي تفرضه التقاليد الاجتماعية البالية.
في أول ابتهالاته يعترف مشهور بأن دوام الطاعة حرمه من تذلُّل التائبين، أي جرَّده من التواضع، وفي آخرها يبلغ به الغرور والكبر منتهاه فيطالب الرب بأن يجعل له عرشاً في الدنيا على صورة عرشه العظيم. وعلى غرار عنوان الفيلم الفرنسي الشهير “وخلق الله المرأة” حام الطفل مبكراً حول فتنة النساء التي أدرك حين بلغ أنها تنام تحت عمائم الدعاة. بينما اعتبرته المغفّلات اللواتي يتمسَّحن بجلبابه غسالة فل اوتوماتيك، تلقي بقمصان الخطايا فتخرج بيضاء من غير سوء.
تروى الحكاية بلسان مشهور، فتنساب ضغائنه وشهواته بسلاسة ممزوجة بالسخرية، لتتخذ شكل اعترافات قناع، وشهادة على عصر تأبدت فيه القضايا التي تسلب الإنسان من ذاته، وتضعه في مواجهة مستترة مع غرائزه، فتتغوَّل داخله لتخلق له واقعا بديلاً قوامه الانتقام. وتشكل خيانة الفتاة ست الدار، بوصفها قدمت للفتى المراهق وعداً مؤجلاً في مملكة الذكورة المقموعة، حافزاً لتوجيه شهوته المنحرفة نحو زوجة أبيه، وتعويض عرش الوجاهة الريفية بمملكة الرياء والنفاق التي يصبح سيدها. ومع أن فاكهة الدنيا ـ أي النساءـ بما رحبت دانت له، لكنه بقي أسير التفاحة الأولى.
ليمنح بركة بطله مصداقية، يطلق لسانه في الاقتباسات المتماهية مع حالاته، فالمؤسسة الدينية، وتمثل الأزهر، كتبت عليه وهي كره له، وأوراقه قبلت في المعبد ليكون كاهناً لا تستقيم الحياة في البلاد إلا بعد نيل بركته. والأب يعظه في خطبة ما قبل الوداع، بأن شرف الرجل في ثأره، فـ”الدم الحامي لا ينفع معه قال الله وقال الرسول”. أما المتعة فموضوع شخصي يمارسه سراً من وراء حجاب، وأمام الناس يصبح سيدنا الشيخ الذي يمنحهم ما يريدون؛ عذرية الجسد والقلب والهوى. وحين يسخط على أعدائه يخاطب الرب قائلاً: اللهم لا تغفر لقومي فإنهم يعلمون. واخسف بهم الأرض فإنهم يستحقون! وفي موضع آخر يبتهل لله من أجل تحويل دار الأوبرا إلى مرآب للسيارات؛ “عملاً خالصاً لوجهك الكريم فقد عزفوا مزامير إبليس وعزفنا مزامير داوود”.
يدرك مشهور مبكراً أن للعمامة مع الجبة والقفطان تأثيراً مذهلاً في المصريين؛ “إذا أردتهم خاتماً في اصبعك فارتدي لهم هذا الزي المستعار من بلاد تركب الأفيال. يكفي فقط أن تطلق لحية خفيفة ثم تغمض عينيك وأنت تمرر حبات المسبحة بين يديك فيأتونك زحفاً”. وصورة رجل الدين تكتمل بمهارة إقناع الناس بأنه المتحدث الرسمي باسم قيُّوم السماء، وتختزل في ابتهاله الخامس: “اللهم بحق كل من مشى على الماء أو أظلته سحابة أن تُحلّ لي ما حرمته على العوام من الناس”. وحين يصبح حبر الأمة الجديد يعترض على شروح الأولين “المكتوبة بحبر التنطُّع”، ويتخذها مدخلاً لتسويق الخيانة بذريعة محاربة الشيوعية والاشتراكية وما يتفرع عنهما من أفاعٍ صغيرة تختبئ تحت وسائد الفقراء.
أثناء قصف بور سعيد يبتهج مشهور فرحاً، قبل أن يهتف جزعاً: “أسألك ألا تمسّني بنار الابتلاء فلا اعتقالي سيكون خلوة ولا نفي سياحة ولا قتلي شهادة”. ومع اقتراب نكسة حزيران تعلو مناشدته لله: “اللهم أنت تعلم أن الزهد ثوب ضيق على جسدي فلا تحمل علي أصراً كما حملته على الذين من قبلي”. وحين يطمئن إلى نجاح مساعيه الخبيثة ويضمن مكتسباته، يؤيد سجود الشعراوي لله شكراً على الهزيمة، ويسوغها بأنه سبحانه وتعالى نزههم عن الابتلاء. فلو انتصرت مصر في الحرب وهم في أحضان الشيوعية لإصابتهم فتنة في دينهم!
“عيبكم كمصرين أنكم لا تودّون سماع الحقيقة”؛ عبارة مفتاحية توارت بين السطور، ووردت بلسان العميل الأميركي، وصاغت إبداعية الابتهالات الملغَّمة والعبارات المفخخة في مواجهة مأزق النفاق المستشري داخل تلافيف المجتمع المصري. ويتمثل منتهى النفاق والتدليس باستغلال حب النبي عند المصري، فيضع المجادل حدا للنقاش معه عبر الإيحاء إليه بأن النبي سيكون خصمه يوم القيامة؛ عندئذ “لن ينصاع لكلامك فحسب بل سيقبل حذاءك متمنياً العفو والسماح”. وهذه الفكرة تجد امتداد لها في استعانة مشهور أثناء صلاة الاستسقاء في الجزائر بـ”إرث قديم من التذلل والانكسار رباه الفلاحون على ضفاف النيل مع كل مستعمر جديد”.
تحمل رمزية الخاتم الذي نقشت عليه عبارة “عرش على الماء”، المعنى المزدوج، بحيث تشير إلى المتاهة اللانهائية من التدليس والنفاق، وفي الوقت نفسه، تبشر بوعي يوظفه بركة للدعوة إلى مواجهة إرث التخاذل والتبعية. إرث يتغذى من فوقية الشرطي الأميركي، الذي يخاطب عقلية كل تابع بما يناسبها، فيخصص لمشهور عميلاً أشقر بعيون زرق وخصلات شعر ذهبية أنثوية وبشرة ناعمة تختبر ثباته، فيما يقتصر مكان اللقاء على مقام السيد البدوي، حيث يتمايلان ذكراً أو يصمتان في حضرته.