السيمياء بين الغزالي وسوسير

ثقافة 2024/02/21
...

كمال عبد الرحمن

  السيمياء هي علامة أو إشارة أو رسالة، فهناك من النقاد من يرى أنها تتألف من (دال ومدلول) وغيره يقول إنها (دال ومدلول ودلالة) وغيرهم يرى أنها (كتابة وقراءة وتصور ذهني ثم تصور عيني)، فما الدال؟، الدال هو كلمة مثل (باب) والمدلول هو تحول هذه الكلمة إلى صورة باب، والدلالة هي أي نوع من الأبواب وما هو بالضبط؟ هل هو (باب بيت) أو (باب سيارة) أو (باب قلعة) وهكذا، فنلاحظ أنَّ الدال (الباب) كيف جرت عليه تحولات وتغيرات حتى نصل إلى الباب المطلوب في هذا اللفظ أو الكلام، وهناك من يرى غير ذلك من النقاد، وكل يلتزم رأيه.

والسيمياء :علم العلامات (semiology/semiotics)، افترض وجوده (فردينان دوسوسير) محدداً إياه بالعلم الذي يعكف على دراسة أنظمة العلامات مما يفهم به البشر بعضهم عن بعض والذي أداهُ إلى هذا التصور اعتباره اللغة نظاماً من العلامات قبل كل شيء، وتنطلق المنهجية السيميائية في رؤيتها ((من الشكل في فهم الإنسان، ولا تطمح إلى أكثر من وصف وجوده)) على النحو الذي يكون بوسعها الكشف عن حيوية هذا الفهم وحراكه وشغله داخل كيان الشكل، ومن ثم وصف فعاليته العلامية التي تصور حساسية ذلك وتنتج معناه من خلال الكيان الوجودي للإنسان، ومن ((خلال فلسفة التّوجه نحو صوغ النظام الدلالي في الأشياء والرؤى المكونة لهذا الوجود داخل أعماق الدوال ونظم تشكيلاتها))، والعلامة (اللغوية) عند سوسير كائن مزدوج الوجه، يتكون من (دال) و(مدلول) و((تعمل هذه العلامة على توصيل الدلالة)) وهذان العنصران، أحدهما (الدال) عبارة عن صورة صوتية أو سمعية أو بصرية (صورة مادية)، أما الآخر (المدلول) فهو تصور (مفهوم) ذهني غير مادي، وبذلك تصبح العلامة اللغوية لديه كياناً سيكولوجياً له جانبان، يتحدان في دماغ الإنسان بآصرة التداعي، وللعلامة اللغوية لدى سوسير صفتان جوهريتان:
الأولى: الطبيعة الاعتباطية للعلامة، وهي تعني عدم وجود علاقة طبيعية بين الدال ومدلوله، ولا تخضع هذه العلاقة لقوانين منطقية. إنَّ مبدأ الاعتباطية أحدث تحولاً كبيراً في الدراسات اللغوية اللاحقة، فقد عمل على تفكيك (مركزية الذات وإزاحتها بوصفها فاعلية لها الأولوية في تشكيل المعنى)، وعملت (الاعتباطية) على نقل المركز من الذات إلى اللغة فـ(الدال/ المدلول) يرتبطان بالاعتباط ذهنياً، وهذا الارتباط يحيز المفهوم بنية ممتلك اللغة (أي في الذهن) قبل تجسدها، لكن عندما تتجسد العلامة مادياً تستبعد نية المتكلم وتلغى، ليتشكل معنى آخر خاضع لمنطق اللغة، فتلغي الاعتباطية بذلك (التاريخية) وتغدو العلامة ((كأنها ابتداء مصفر من أي حمولة، فتخضع لشبكة العلاقات المسؤولة عن تأسيس المعنى))، ومن الاعتباط نفهم أنَّ كلمة (شجرة) باللغة العربية، لا يمكن فهمها بلغة أخرى غير العربية.
الثانية: الطبيعة الخطية للدال، بما أنَّ الدال يحدث في الزمن وله خصائص يقتبسها من الزمن فهو:
1. يمثل فترة زمنية
2. تقاس هذه الفترة ببعد واحد هو ((البعد الخطي، الذي يوجد على شكل متتالية أو سلسلة)) كما أنَّ العلامة باعتبارها الوحدة المكونة من الدال والمدلول، يمكن أن تشكل مجرد عنصر (دال) في حال دخولها في (نظام مركب) وتمثل العلامة في حالتها الأولى ــ أي قبل الدخول في النظام المركب ــ (نظام التقرير)، وما أن تدخل في النظام المركب حتى تمثل (نظام الإيحاء) بحسب بارت، وهذا أيضاً ما يوضحه (تزفتيان تودوروف) بتمييزه بين (صيرورة الدلالة) و(صيرورة الترميز) ذاهباً إلى أنَّ الصيرورة الأولى هي استدعاء الدال لمدلوله، في حين أنَّ الصيرورة الثانية (صيرورة الترميز) هي رمز المدلول الأول إلى مدلول ثان في الملفوظ داخل التركيب)) وتسعى السيميائية البنيوية إلى النظر في ما وراء سطح المدروس، أو تحته، لاكتشاف تنظيم الظواهر التحتي، وكلما بدا التنظيم البنيوي للنص أو للشيفرة بيناً ((زاد احتمال وجود صعوبة في رؤية ما يقع ما وراء سمات السطح)) كما يركز التحليل السيميائي على الخطاب باعتباره نظاماً لإنتاج الأقوال.
ولابد لنا أن نبين نوعين من العلاقة بين (الدال) و(المدلول) الأول عند أبي حامد الغزالي فالشيء لدى الغزالي له وجوده العيني كـ(الشجرة نابتة في الأرض)، ثم يكون لها وجود ذهني، وهو أن ينشأ في ذهن الإنسان صورة تقوم في الذاكرة، ويأتي الوجود اللفظي وهو كلمة (ش ج ر ة)، وهذه لا تشير إلى الوجود العيني بل إلى الوجود الذهني، لأنَّ نطقنا بهذه الكلمة لا يحضر الشجرة التي على الأرض وإنما يثير صورتها التي في الذهن، فالدال هنا يثير دالاً آخر، واللفظ يجلب الصورة، ثم يتحول الوجود اللفظي إلى كتابة، والكتابة تثير فينا اللفظ لأنَّ أول ما نفعل إذا صادفنا المكتوب هو أن نقوم بنطقه، و((هذا النطق يجلب في الذهن صورة ذلك المنطوق)) أما عند سوسير فالعلاقة بين الدال والمدلول لا تعبر عن ثلاثية (دال ــ مدلول ــ دلالة) كما عند الغزالي، وعلم العلامات لا يتجاوز هذه العلاقة الثنائية (دال ومدلول) أو (دال ومدلول ودلالة)، وإن كنا نرى العلاقة عند أبي حامد الغزالي هي الأبسط والأوضح والأدق.