محمد سعيد الطريحي وموسوعة الموسم

ثقافة 2024/02/21
...

  د. عبد الجبار الرفاعي

لا أتذكر اليوم الأول للقائنا أنا والأخ الغالي الأستاذ محمد سعيد الطريحي، ما أذكره جيدا أن ذلك اللقاء بهذا الإنسان الحيوي المتدفق الذي لا يهدأ، كان قبل نحو 40 سنة، ومنذ ذلك الوقت كنت أراه شغوفا صبورا يسعى لتوظيف خبراته وطاقاته المختلفة من أجل إنجاز أحلامه الكبيرة. الطريحي الإنسان يفرض محبتَه عليك، يفرح بمنجز صديقه كما يفرح بمنجزه، ويرى منجزَه وكأنه شريك فيه، وإن لم يشارك فيه بشيء ملموس. من يعرف محمد سعيد عن قرب يجده مكتفيا بذاته، لم ينشغل هذا الإنسان بتسقط عثرات غيره، ولا تسرّه آلامُ الأصدقاء في باطنه وينافقهم في الظاهر بتعاطف كاذب.

لم أسمع منه هجاء أو تعريضًا أو ازدراء بإنسان قريب أو بعيد، كان ومازال يذكر مزايا الأصدقاء ومَن يعرفهم، ويتغافل عن ثغراتهم. ربما تحسبه ساذجًا لا يعرف معادن البشر، ولا يدرك شيئًا مما في داخلهم من انزعاج وغضب وضغينة من منجزات غيرهم ونجاحهم. الطريحي إنسان حكيم مدبر واقعي، يصغي إليك أكثر مما يتكلم، صامت، أظنه تعلّم حكمة الصمت من معلمي الروح الهنود. لم ينشغل يومًا بنميمة أو انتقاص من أحد، ولم يتلصّص على نوايا إنسان وما يختبئ بداخله. تمرّن على رؤية البؤر المضيئة في الإنسان، وكأنه لا يرى ثغرات أحد، وما هو مظلم في مواقفه وسلوكه وكلماته. محمد سعيد ذكي عاطفيًا، لا يُغضِب أحدًا، يحتفي بالآخر ويكرمه بكلمة محبة صادقة، يعرف مقامات الناس ومكانتهم، ويعرب عن الاهتمام بجهودهم، وإن كانت يسيرة. يبادر فيقترح عليك، إن رأى عطاءك الفكري والإنساني جديرًا بالتثمين، دعاك لاحتضانه ونشر كتاباتك، أو اصدار ملف في الموسم حول جهودك، يقدّمك فيه لأهل العلم، ويسوِّق أعمالك.
  يغيب محمد سعيد لانهماكه بالعمل والرحلات في مختلف البلدان، وفجأة نلتقي وكأننا نعيش معًا ولم نفترق يومًا. أعرف أعماله، وأواكب إصداراته لمجلته الأثيرة الموسم، وغيرها مما يؤلفه ويعدّه ويحرّره، وأعرف شيئًا من أحلامه، بقربي منه، وقراءة ما ينشره، وبقدر تنامي محبتي له واحتفائي بجهوده، تزداد ثقتي بموهبته وعزيمته وإصراره وجَلَده. محمد سعيد شخصية مثابرة صبورة مدمنة على العمل، والأعمال الرائدة لا تليق إلا بشخصية طليعية رائدة تمتلك هذه الخصال.  
مضت كلُّ هذه السنوات في مغتربه عاجلًا غير أن محمد سعيد استثمرها ببراعة مذهلة، كان يتعاظم عطاؤه ويزداد توهجًا وألقًا. لا أعرف رجلًا كالطريحي عاش في بلدان متنوعة من المهاجرين العراقيين استطاع وحده أن يراكم انتاجًا غزيرًا يتميز بفرادة في حقله، ويتحول إنتاجُه إلى مكتبة استثنائية، اقترحتُ تسميتها: «الأرشيف الشيعي في القرن العشرين»، ينجز كلَّ شيء بنفسه، من دون ميزانية، ولا فريق عمل، ولا بروبغاندا إعلامية وضجة. واكبتُ الموسم منذ العدد الأول، وحرصتُ على ملاحقة ما يصدر منها، وكعادتي كنت أقرأ أكثر الأعداد من الغلاف إلى الغلاف. أندهش من قدرة هذا الإنسان على بناء أرشيف بل كنز يكتظ بالوثائق الثمينة، تتسع للديموغرافيا والتاريخ القريب للشيعة في مختلف مواطنهم في الأرض. يفاجؤك الطريحي بتتبعه الواسع ورصده الدقيق للجغرافيا البشرية للشيعة، عندما تقرأ ملفًا زاخرًا بالوثائق والصور والمعطيات المتنوعة عن شيعة في بلد أفريقي لا تعرف عنه شيئًا، تشاهد صورَه في الملف برفقة رجال الدين والوجهاء ورجال الأعمال وطلاب العلم ورجال السلطة. لا يتوقف الطريحي عند الشيعة، بل تراه يصادق رجالَ دين من الأديان والطوائف الأخرى، بلا تحفظ أو تردّد أو حذر أو خوف، يتحدث ويكتب وينشر عنهم.
  الطريحي يعيش حرًا خارج الأسوار المغلقة للجماعات. لم يكن الدين أو المعتقد أو المذهب شرطًا في علاقاته وصداقاته العابرة للأديان والثقافات. يصادق محمد سعيد رجالَ الدين في مختلف الأديان السماوية والأرضية، لا يحذر من رجل دين هندوسي أو سيخي أو بوذي وأمثالهم في الهند. أبهرني شغفُ الطريحي بالأديان والثقافات الهندية، ورحلاته المتواصلة وإقامته بهذه البلاد الخصبة روحيًا بفضائها الميتافيزيقي، والغنية بتنوعها اللغوي والقومي والديني والمذهبي الفريد. لا أبالغ إن قلت: بحدود اطلاعي لا أظن أن إنتاجَ الطريحي الغزير حول الأديان والثقافات الهندية يضاهيه إنتاج باللغة العربية. يذكرني محمد سعيد بالمفكر الإيراني داريوش شايغان، الذي خصصت له الفصل الثالث من كتابي الجديد: «مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث» الصادر عن دار الرافدين هذه السنة 2024، فقد بعث شايغان الأبُ رجل الأعمال الطهراني الثري ابنَه داريوش ليدرس الطب في جامعة جنيف، في ذلك الوقت التحق الابنُ بدروس «جان هربر» حول الأساطير الهندية، وواظب على تلك الدروس، فنشأت علاقة وثيقة مع أستاذه. يصف شايغان أستاذَه جان هربر بأنه: «كان حميميًّا، يمكن الاعتماد عليه، ومعلمًا بارعًا في بيان الروحانية الهندية الحية. تعلمت منه كيفية استيعاب ملحمة الهند. من هنا وجدت من الضروري التعرف على الهند من الداخل، ولا يتحقق ذلك من دون تعلم اللغة المقدسة لكتبهم، مما دعاني لحضور دروس (هنري فراي) لتعليم اللغة السنسكريتية لمدة سنتين، بجدية وطموح وشغف، حتى تمكنت من قراءة النصوص المقدسة». ترك شايغان الطبَ وتعلّم السنسكريتية، وتخصص بالهندوسية والأديان الهندية، حتى صار من المتخصصين المعروفين في أديان الهند.  خصّص الطريحي لمجموعةٍ من المراجع ورجال الدين وبعض رجال الفكر والأدباء في الموسم أعدادًا خاصة، بعضها صدرت في عدة مجلدات، استوعب فيها سيرتَهم ومنجزاتهم وآثارهم العلمية والعملية، وغالبًا ما يفرد صفحاتٍ للوثائق تتسع أحيانًا لربع المجلد، واللافت أن الملحق الوثائقي يتضمن أحيانًا وثائق قديمة بالغة الأهمية، يندهش القارئُ من قدرة صاحب الموسم على نبش الأرشيفات، والمطمورات، والخزائن المنسية، وانتقاء مثل هذه الوثائق الثمينة منها.
المجلدات 192، 193، 194 من موسوعة الموسم، تبلغ نحو 2000 صفحة، وقد تضمنت مادةً واسعة حول الشيخ عبد الكريم الزنجاني. الزنجاني من مجتهدي الحوزة المغيبين، وكان أستاذًا ومؤلفًا للفلسفة المنبوذة ذلك اليوم في حوزة النجف. ومن أشد المدافعين عن القضية الفلسطينية ومناهضة الاحتلال. تعرّض الشيخ الزنجاني إلى مقاطعةٍ قاسية وإهمال وازدراء وتجويع، إثر دعايات وشائعات ملفقة، يقول السيد هاني فحص: «أخبرني بعض أبناء العلماء اللبنانيين المعاصرين له: أن بعض المعممين، كان ينفحهم بعض (العانات)(1) مقابل ذهابهم إلى السوق الكبير، في موعد مرور الرجل لإيذائه ببذاءات يندى لها الجبين»(2) .
ولبث على هذه الحالة من الإقصاء والتجاهل: «إلى أن استأثره الله سبحانه برحمته ورضوانه فانتقلت روحُه إلى رحاب عِندَ مَلِيكِ مُقْتَدِرٍ يوم الثلاثاء ١٧ جمادي الاولى سنة ١٣٨٨ هـ / الموافق للعاشر من سبتمبر عام ١٩٦٨م، وقد توفي جائعاً بسبب سوء التغذية، كما أثبتت اللجنة الطبية التي قدمت لفحصه بأمر من وزارة الصحة العراقية بعد وفاته. وقبيل أن يلفظ أنفاسَه الأخيرة نزع ما عليه من ثوب خلق قائلاً للنفر الذي حضر احتضاره: «أريد أن ألقى الله سبحانه وتعإلى كما خلقني عريانًا وحيداً». والرثاء الصادق الوحيد الذي صدر أيام وفاته بيان نشرته مجلة «العدل» النجفية لصاحبها السيد إبراهيم الفاضلي، ومما جاء في بيان النعي: (لقد عاش الزنجاني قدس الله سره كما عاش المتصوفون، حصيرة بآلية ما عليها غير القراطيس والمحابر، وغرف خالية ما بها غير الكتب والدواة.... الظروف كانت عاتية عاصفة ظالمة، فمات في داره كما يموت أي زاهد نسيه حتى الجائعون إلى زاده الفكري، والظامئون إلى فرات ذكائه العذب، وعزاؤنا أن التاريخ لم يهمله. إنه جاهد لدينه وصبر، وإن لم يؤت ثماره اليوم فلا بد أن تتذوقه الأجيال القابلات). ومع كل ما تحمّله الرجل من المحن والأذى، فإنه حورب حتى بعد أن تحول إلى جثة هامدة، حتى طلب أحدهم (من الوسط الروحاني) أن تُلقى جثته في الشارع»(3).
شهادة كتبتها بمناسبة تكريم جامعة الكوفة للأستاذ محمد سعيد الطريحي وموسوعته الموسم، يوم الخميس 16 - 2 - 2024، قرأها الدكتور باقر الكرباسي مشكورًا لتعذر حضوري.

الهوامش:
1 - العانات جمع عانة، عملة معدنية كانت قيمتها أربعة فلوس في العهد الملكي، فصارت قيمتها خمسًا بعد ثورة 14 تموز 1958.
2 -  الموسم المجلد 192، (1445 هـ - 2024 م)، ص 33-34.
3 - الموسم المجلد 192، (1445 هـ - 2024 م)، ص 35.