حياة شرارة.. أيامها التي أغسقت

ثقافة 2024/02/21
...

 باسم عبد الحميد حمودي

في ظهر يوم من أيام تموز 1997 كانت د. حياة شرارة بيننا في غرفة محرري مجلة (الأقلام). كنا، موسى كريدي شيخ الموسوعة الصغيرة ورئيس تحريرها وخضير عبد الأمير شيخ (الطليعة الأدبية) وأنا من غرفتي القريبة في التراث الشّعبي، نلتقي يوميا بعد الواحدة في هذه الغرفة المستطيلة وحسنة التبريد في بناية الشؤون الثقافية لنتحاور قليلا، ونسمع من بعضنا آخر أخبار زيارات وأعمال اليوم وسط نكات موسى وحديث عائد خصباك.
في ذلك اليوم.. جاء موسى كريدي ومعه د.حياة شرارة (والاثنان من مدينة النجف أساسا) لأتعرف عليها.احتفيت بها مسرورا وهي تحدثنا عن والدها الأديب اللامع محمد شرارة، وعن خطتها الحالية في جمع مالم يجمع من آثاره، وقالت إنها تقصدني اليوم لعلاقة عرفتها مؤخراً كانت بين والدها ووالدي الذي كان صديقاً لشرارة الأب.
كانت تريد أية صورة أو مخطوطة لدى والدي عن  الراحل الكريم.. هنا طرحت عليها فكرة اللقاء المباشر بينها وبين الوالد.. وأتفقنا على تحديد موعد لاحق  بعد ذهابي إلى مدينة المأمون لمعرفة ما يملكه عبد الحميد حمودي من معلومات عن شرارة.. كان وسيط الاتفاق الأستاذ موسى، فهو الأقرب اليها بعد تقاعدها القسري من كلية اللغات ورحيل زوجها د.محمد سميسم المشبوه الذي أعتقل وهو يجري عمليات الكسور، ولم يعد إلى داره إلا جثة هامدة بسبب موقفه السياسي المعارض لاتجاهات النظام القائم.  لم يكن لأستاذة اللغات البارزة ومترجمة الكثير من روائع الأدب الروسي إلى العربية ما يشغلها سوى العمل اليومي في جمع آثارها المترجمة التي لم تنشر، والاستمرار في كتابة روايتها (إذا الأيام أغسقت) التي نعت فيها حياتها الكئيبة المضطربة، وهي تعيش أيام اضطهادها في الكلية، وقسوة عميدها وسوء سلوكه القمعي وابتزازه للأساتذة الذين لايوالون النظام وسماحه بالرشى ومظاهر تدني الدرس الجامعي، وهي أمور أضطرتها لإنهاء خدمتها بالإحالة للتقاعد ومحاولة الخروج من العراق إلى لبنان بدعم  من عمها الأديب الكبير عبد اللطيف شرارة.  كانت أزمة الدكتورة حياة وبنتيها معها، أنها لا تستطيع الخروج إلى لبنان للعيش مع عمها الكاتب الكبير عبد اللطيف شرارة،  لأنها عراقية الجنسية أولا، وليس لديها (محرم  أو وصي) من الذكور يستطيع الموافقة على سفرها وبنتيها، لتأذن سلطات المطار بسفرهن!  هذا ما وضعوه أمامها من عراقيل بعدما سدت أمامها سبل العيش زمن الحصار براتبها التقاعدي الضئيل. كانت أستاذة الأدب الروسي ومترجمة روائعه إلى العربية ترفض المعونة من شقيقتها بلقيس شرارة زوجة رفعت الجادرجي، وهما يقيمان في لندن، وكانت تحاول بكل الوسائل الممكنة أقناع السلطات بالسماح لها بالسفر للعمل بشهادتها العليا، وأيقاعها الثقافي الكبير في الجامعات اللبنانية التي رحبت بها، إضافة لرعاية عمها الأديب شرارة.. لكن ذلك لم يحدث. أنزوت دكتورة حياة تجمع آثار والدها الكاتب الكبير، وهي تكتب روايتها (إذا الأيام أغسقت) التي استطاعت أرسالها إلى شقيقتها، وكان من جملة مخططاتها الأتصال بمن تبقى على قيد الحياة من أصدقاء والدها ومنهم والدي.
 وقد علمت منها ساعة اللقاء أن واحدا من آل الفرطوسي كان معلما مع والدي في  قضاء الشامية في أربعينيات القرن الماضي قد أعلمها بهذه العلاقة التي سمعت الوالد يذكرها أحيانا في حديثه عن صداقاته مع الجواهري، وبحر العلوم محمد صالح، ومحمود الحبوبي (الشاعر المعروف وغريمه الدائم في لعبة الشطرنج)، وسواهم. المهم في الأمر أن هذا اللقاء لم يتحقق.. بسبب الخبر الفاجع الذي كانت بطلته دكتورة حياة شرارة التي أقدمت على الانتحار مع ابنتها مها صباح الأول من آب 1997، أي بعد أقل من أسبوع من لقائي بها مع موسى وخضير وعائد.  جاء موسى مضطربا إليّ وجلس حائرا، وهو يهمس لي (ونحن وحدنا في اليوم التالي)، قائلا (ماذا تظن؟ هل انتحرت بالغاز؟ أم؟) وضعت يدي على شفتيه، وهمست (أم) وفهم موسى ما قلت.. وسكتنا ونحن نقضي نهارا مزعجا قاسيا. بعد هذه السنوات على رحيل الكاتبة والمترجمة الكبيرة لا نستطيع التأكد من حقيقة الموت الذي حل بها «رحمها الله».. ولكنه كان تصفية لحياة مثالية رائعة.. تماما مثل استشهاد زوجها الدكتور محمد سميسم الذي اعتقل وهو يعمل في المستشفى، لينتهي وحيدا من دون ذنب.. سوى فكره الحر.