لندسي جيرمان: الفصل العنصري والإبادة الجماعيَّة

منصة 2024/02/21
...

 ترجمة: نجاح الجبيلي

لندسي آن جيرمان (من مواليد 1951) ناشطة يساريَّة سياسيَّة بريطانيَّة. عضو مؤسس للمنظمة البريطانيَّة المناهضة للحرب تحالف {أوقفوا الحرب}، وكانت سابقا عضوا في حزب العمال الاشتراكي، وعضوًا في لجنته المركزية ورئيسة تحرير مجلته، مراجعات اشتراكية Socialist Review.
ترشّحت جيرمان مرتين كمرشح يساري لمنصب عمدة لندن، وجاءت في المركز الخامس في عام 2004، وكمرشح لمنصب عُمدة القائمة اليساريّة في انتخابات مايو 2008. في فبراير- شباط 2010، وبعد "تزايد خيبة الأمل" تجاه القيادة، استقالت من حزب العمال الاشتراكي، بعد عضوية استمرت 37 عامًا. وقد أجرت مجلة "اليسار الجديد" حوارًا معها بشأن القضية الفلسطينية وحصار غزة وحركة التضامن مع فلسطين في بريطانيا التي هي عضو فيها:

 حكومة المملكة المتحدة من بين الدول الأكثر تأييداً لإسرائيل في العالم الغربي، وقد بذل حزب العمال المعارض قصارى جهده لتطهير صفوفه من منتقدي إسرائيل، ومع ذلك فإنَّ حركة التضامن مع فلسطين في بريطانيا كانت الأكبر في أوروبا. باعتبارك أحد المنظمين الرئيسيين لتلك الحركة، كيف يمكنك تفسير حجمها المثير للإعجاب؟
- في العديد من الدول الغربية، تضم الحركة المؤيدة لفلسطين أطرافًا مختلفة لا تعمل دائمًا معًا: اليساريون، والإسلاميون، والقوميون العرب. حينَ أسّسنا ائتلاف "أوقفوا الحرب" في عام 2001 حاولنا اتباع نهج مختلف، وبدأنا التعاون مع الجماعات الإسلامية منذ وقت مبكر، على سبيل المثال بعد المذبحة التي وقعت في جنين في ربيع عام 2002، قررنا أن تكون المظاهرة الحاشدة في فبراير/ شباط 2003 ضد الحرب على العراق أيضًا بمثابة مسيرة لتحرير فلسطين، وكان الشعاران لهذا المظاهرة هما "لا تهاجموا العراق" و"الحرية لفلسطين".
وبعد ذلك، خلال الاحتجاجات ضد عملية "الرصاص المصبوب"[الحرب على غزة] في 2008- 2009، عقدنا تحالفًا مع حملة التضامن مع فلسطين، وحملة نزع السلاح النووي، والرابطة الإسلامية في بريطانيا، وأصدقاء الأقصى، ومنتدى فلسطين في بريطانيا، الذي لا يزال قائماً إلى اليوم.
لقد عملنا أيضًا كثيرًا مع نقابات العمال البريطانية، التي كان موقفها بشأن هذه القضية قويًا بشكل عام. ولذلك أعتقد أن الروابط القوية بين هذه المؤسسات تجعل من المملكة المتحدة حالة مميزة.
هناك أيضًا وعي واسع النطاق إلى حدٍّ ما بتاريخ بريطانيا الإمبريالي، بما في ذلك دورها في المشروع الصهيوني: وعد بلفور، وسايكس بيكو، وبالطبع انتداب عصبة الأمم. إذا ذكرت هذه الأمور في تجمع حاشد في لندن، فإن الناس من خلفيات وطبقات اجتماعية مختلفة جدًّا يعرفون ما الذي تتحدث عنه، وهو أمر مثير للاهتمام، لأننا لم نتعلم عنها في المدرسة. والآن، مع استمرار المذبحة في غزة وانتشار العنف في جميع أنحاء المنطقة، يشعر الناس بالرعب من دعم المملكة المتحدة لآلة الحرب الإسرائيلية، وهم يدركون أن هذه لحظة فاصلة. لذلك، وعلى مدار سبعة عشر أسبوعًا متتاليًا، كانت هناك إما مظاهرات وطنية كبرى، جلبت مئات الآلاف إلى الشوارع، أو انضمت أعداد كبيرة إلى التحركات المحلية. وردًا على ذلك، اقترحت الحكومة حظر الأعلام الفلسطينية، ومنعت شعارات معينة، أو حظر الاحتجاجات بشكل كامل، كما حدث في فرنسا وألمانيا. ولكنها حتى الآن لم تنجح.

 هل يتحدى ذلك الأمر الفكرة، التي سمعناها طوال سنوات كوربين [قائد حزب العمال للفترة من 2015 - 2020]، بأن معاداة الإمبريالية هي تيار هامشي لا يحظى بشعبية في السياسة البريطانية؟
- أعتقد أن هناك فكرة خاطئة مفادها أن الإمبريالية تشتري دائمًا ذمم العمال البريطانيين. لكن إذا نظرنا إلى التاريخ، سنجد أن هناك تعبئة متكررة حول القضايا الدولية: من الحرب الأهلية الإسبانية إلى أزمة السويس إلى الفصل العنصري في جنوب إفريقيا. عارض ويليام موريس حرب السودان بشدة عام 1884. ودعمت الطبقة العاملة في لانكشاير الشمال خلال الحرب الأهلية الأمريكية على الرغم من معاناتها نتيجة ذلك. وكانت لهذه كلها أسباب شعبية. إذن هناك تيار سياسي قوي هنا - وأعتقد أنه أحد الأسباب الرئيسية لانتخاب كوربين زعيمًا لحزب العمال في عام 2015. ولكن بالطبع، هذا التيار هو لعنة بالنسبة لمؤسسة حزب العمال، التي كانت سياستها الخارجية رجعية باستمرار، خاصة حين يتعلق الأمر بحركات الاستقلال وإنهاء الاستعمار في القرن العشرين. ولم يستطع يمين الحزب أن يتحمل فكرة أن كوربين كان سيغير سياسة بريطانيا في الشرق الأوسط، ولم يستطع تحمل أن شريحة كبيرة من السكان تدعمه في هذه المسائل. وكان بوسعهم أن يتسامحوا مع قيامه بإعادة تأميم السكك الحديدية، لكن ذلك كان بمثابة جسر بعيد المنال.

 هل يفسر هذا أيضًا سبب رد حكومة المملكة المتحدة بقوة على الاحتجاجات الأخيرة؟
-أعتقد أن الحكومة فوجئت برد الفعل على السابع من أكتوبر. ومع بدء قصف غزة، قرروا إضاءة "داونينج ستريت" بألوان العلم الإسرائيلي. لقد تصوروا أن هذه ستكون لحظة أخرى في أوكرانيا، حيث يلتف الجميع حول إسرائيل في صراع مفترض بين الحضارة والهمجية. لقد كانوا يستعدون لهذا النوع من العمليات الدعائيَّة. ولكن في وقت مبكر من يوم 9 أكتوبر، تجمع آلاف الأشخاص للاحتجاج خارج السفارة الإسرائيلية. وكما حدث في أحداث 11 سبتمبر، فقد رأوا أن هذا الهجوم سوف يستخدم لتبرير القتل على نطاق أوسع بكثير، وأن الحكومة الإسرائيلية سوف تستغل هذه الفرصة لمحاولة طرد السكان العرب من فلسطين التاريخيَّة.
لم يثق الناس في الحكومة أو التغطية الإعلامية أو كير ستارمر [رئيس حزب العمال منذ سنة 2020]. وهذه مشكلة خطيرة بالنسبة للطبقة السياسيّة، لأنّه إذا استمرت الحرب في التصاعد فلن يكون لديهم تفويض للتدخل، وسوف يكافحون من أجل الحصول على الموافقة لاتباع الولايات المتحدة في هذا المستنقع العسكري. ولن نصدقهم حينَ يقولون لنا أن إيران تشكل تهديدا وجوديا، على سبيل المثال.
وهذا هو سبب رؤيتنا لمحاولات قمع حركة التضامن. وقد وصفت الحكومة المظاهرات بأنها "مسيرات الكراهية" وأدخلت تشريعات لتجريم حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات. لقد أطلقوا أيضًا حملة قمع على مجموعات هامشية أصغر. وقد صُنِّف حزب التحرير الإسلامي كمنظمة إرهابية، ومن الواضح أنه ليس كذلك، على الرغم من أننا قد نختلف معه في معظم القضايا. كما اعتقلت الشرطة أعضاء في منظمة ماوية صغيرة تسمى CPGB-ML، وداهمت منازلهم وصادرت مطبوعاتهم. كما أنّ أفراد المجتمع المسلم لا يمكن لأطفالهم التحدث عن فلسطين في المدرسة، وإلا سيتم الإبلاغ عنهم بموجب تشريع المنع. هناك جهد حقيقي، من مختلف أقسام المؤسسة، لتقديم النشطاء المؤيدين لفلسطين على أنهم مؤيدون لحماس أو معادون للسامية. ولكن على الرغم من الجهود الحثيثة التي بذلتها صحيفة ديلي ميل وشرطة العاصمة، إلا أنهما لم يتمكنا من العثور إلا على نحو ستة أشخاص في كل مسيرة يمكن أن يزعموا أنهم يحملون لافتات مشكوكًا فيها.

 والآن يؤيد أكثر من 70 بالمئة من سكان المملكة المتحدة وقف إطلاق النار، في حين يعارضه الحزبان الرئيسيان في وستمنستر. ما هي التداعيات الاستراتيجية لهذا الوضع على اليسار؟ هل يمكن أن يفتح المجال أمام تحدٍ انتخابي لحزب العمال بزعامة ستارمر؟
- حين تجرى الانتخابات في وقت لاحق من هذا العام، ستكون فلسطين على ورقة الاقتراع. في الوقت الحالي، لا يتمكن أي من الحزبين من إرضاء مؤيديه، ناهيك عن الجمهور الأوسع، لذا أعتقد أنه سيكون هناك امتناع كبير عن التصويت. ولا يزال يبدو أن حزب العمال سيفوز بأغلبية واضحة، لكن تشجيع رئيسه ستارمر لنتنياهو أدى إلى خروج جماعي لأعضائه. أسمع كل أسبوع عن المزيد من السياسيين المحليين الذين يغادرون الحزب وهم يشعرون بالاشمئزاز.
وفي ليفربول، وهاستنغز، وأكسفورد وأماكن أخرى، أنشأ المستشارون اليساريون تجمعات مستقلة. من المحتمل أن يتنافس بعض هؤلاء الأشخاص ضد حزب العمال في الانتخابات العامة. من الصعب التنبؤ بما سيفعلونه، نظرًا للقيود التي يفرضها نظام الأغلبية، لكنهم بالتأكيد سيضرّون بحصة حزب العمال من الأصوات في أماكن مختلفة، خاصة حين يوجد دعم قوي لوقف إطلاق النار. ومن الممكن أن يشكل هذا، من الناحية النظرية، الأساس لمنظمة جديدة: نوع جديد من الأحزاب اليسارية.
لكن إحدى المشكلات الكبرى هي أن النقابات العمالية الكبرى ما زالت مرتبطة بحزب العمال. هناك الكثير من الأمناء العامين الذين يأتون ويتحدثون في تظاهراتنا في فلسطين، وقد دعمت العديد من النقابات دعوتنا إلى "يوم العمل في مكان العمل" في السابع من فبراير-شباط، وهو أمر مشجع. ولكن على الرغم من موجة الإضرابات التي حدثت خلال العامين الماضيين، لم تحقق النقابات مكاسب كبيرة من حيث عضويتها أو نفوذها. وهي لا تزال تشكيلات ضعيفة نسبيا. لذلك ستكون حريصة على إبرام صفقات مع ستارمر بمجرد وصوله إلى السلطة، وسيكونون مترددين في دعم المبادرات السياسية المستقلة.

 هل تبدأ النقابات في الاضطلاع بدور أكثر كفاحاً بمجرد أن تشرع حكومة حزب العمال المستقبلية في فرض قيود على أجور العمال، كما أشار ستارمر إلى ذلك؟
- حسنًا. شن هارولد ويلسون [رئيس وزراء بريطانيا 1966 - 1970 ومن 1974 - 1976 من حزب العمال- م] هجومًا وحشيًا على اتحاد البحارة في عام 1966، لكن الحركة العمالية رفضت قطع العلاقات مع حكومته. ومنذ ذلك الحين، فقدت النقابات قدرا كبيرا من قوتها، الأمر الذي قد يضعها في موقف أكثر خطورة؛ ولكن مرة أخرى حدث الشيء نفسه مع حزب العمال والحركة العمالية، نتيجة لقطع علاقتها العضوية مع الطبقة العاملة.
لذا أعتقد أن الجواب هو: البعض سوف يتحرر من الحزب والبعض الآخر لن يفعل ذلك. لقد انفصل اتحاد فرق الإطفاء في عهد بلير، ومن المتصور أن يفعل هذا هو وآخرون مثله مرة أخرى.
ولكن إحساسي هو أن النقابات الأكبر حجماً سوف تبذل كل ما في وسعها لمحاولة الحفاظ على حكومة حزب العمال، حتى ولو كانت سياساتها، في كل شيء من التقشف إلى الشرق الأوسط، مجرد صدى لسياسات المحافظين.

 ما هو التالي بالنسبة للحركة الفلسطينية في المملكة المتحدة، خاصة بالنظر إلى ميل المسيرات المنتظمة إلى فقدان زخمها؟ وكيف تحافظ على طاقتها؟
- إنّ الإجراءات التي يمكن اتخاذها تكاد لا تنتهي. قامت مجموعات مثل "العمال من أجل فلسطين حرة" و"العمل من أجل فلسطين" بإغلاق مصانع الأسلحة.
ونظم المتظاهرون اعتصامات في محطات السكك الحديدية. كان هناك يوم من العمل ضد بنك باركليز، الذي يوفر استثمارات بمليارات الدولارات لشركات الأسلحة المرتبطة بإسرائيل، ومن المؤكد أن الأنواع الأخرى من تنظيمات المقاطعة ستستمر. نحن نستعد للإضرابات المحدودة في أماكن العمل والحرم الجامعي الأسبوع المقبل. لكنني أعتقد أننا يجب أن لا ننظر إلى العمل المباشر والمسيرات كونهما متعارضين بطريقة أو بأخرى. بالنسبة لي، ما تفعله المظاهرات الوطنية هو جمع أعداد كبيرة جدًا من الناس والمجموعات معًا، وهو ما يحفزهم على الانطلاق والقيام بأمور مختلفة. وهذا يساعد على الحفاظ على الزخم المستمر. إذا لم يكن لديك مظاهرات وطنية، فهناك خطر من تفكك الحركة.
والشيء الآخر الذي سيساعد على استمرارية النشاط هو وجود نواة سياسية قوية، وهو ما يعيدنا إلى مسألة مناهضة الإمبريالية. أعتقد أنه من المهم بالنسبة للناس أن ينظروا إلى غزة باعتبارها مرتبطة بشكل متكامل بالوضع الأوسع في الشرق الأوسط، كيف يتم تشكيله من قبل الولايات المتحدة، وبدرجة أقل من قبل بريطانيا. لذلك أنت بحاجة إلى اجتماعات ومناقشات عامة لتطوير هذا النقد.
وتحتاج أيضًا إلى كتاب ومثقفين لتسليط الضوء على هذه القضية. من الواضح أن كتاب غادة الكرمي الصادر عام 2023 قد جرى بيعه بالكامل، ويستمر في البيع في كل مرة تتم طباعة نسخ جديدة، مما يخبرك أن الناس يدركون بشكل متزايد أن الحل المطروح حول تعايش الدولتين هو مجرد خيال ويفكرون الآن فيما هو أبعد من ذلك.
المهم هو أنه حتى لو كان هناك وقف لإطلاق النار، فإنّ هذه الحركة لن تختفي. قد تصبح المظاهرات أصغر بكثير، وقد يرغب الناس في القيام بالمزيد من الإجراءات المحلية، لكن الشعور السائد بين المنظمين هو أن هناك تغييرًا جذريًا دائمًا في المواقف العامة تجاه فلسطين. وقد أدى هذا بالفعل إلى تغيير السياسة البريطانية. ولا تزال المؤسسة تحاول استخدام الاتهامات بمعاداة السامية كسلاح ضد أي شخص ينتقد إسرائيل، لكن تحقيق ذلك أصبح أكثر صعوبة.
إنّ العبارة القائلة بأن إسرائيل هي "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" لم تعد صالحة بعد الآن. وبفضل حملة التضامن وقرار محكمة العدل الدولية، سترتبط إسرائيل الآن إلى الأبد بكلمتي "الفصل العنصري" و"الإبادة الجماعيّة".