الجمال والقباحة.. سوسيولوجيا التعب الجسدي والذهني

ثقافة 2024/02/25
...

  عبد الغفار العطوي

إن من أهم مؤلفات جورج  فيغاريلو (1941) عالم اجتماع ومؤرخ فرنسي، ومدير أبحاث  في معهد الدراسات العليا  في العلوم الاجتماعية  بباريس، هي التي تتعلق بالجسد، وتاريخه هي، تاريخ الجسد، تاريخ الجمال، تاريخ الاغتصاب من القرن السادس عشر إلى القرن العشرين، وتاريخ التعب.. إلخ. في كتابه «تاريخ التعب» يضعنا في أول الطريق الصعب الذي ينتهي بمنظور فلسفة التعب لدى الإنسان من العصر الوسيطي إلى أيامنا هذه، مما يعني أن فيغاريلو يواجهنا بعصر انقراض التاريخ البشري، جراء تحولات أنماط التعب في رحلة الإنسان في  تاريخ البشرية المنهك حيث (نهاية  كل شيء)، وهي النهاية التي تحدث عنها كريس أمبي في وصفه  لسيناريو مآل النهاية  الحتمية  لكل شيء (من الإنسان إلى الكون) في مستقبل البشرية، التي يسهب في ما عن تهدد البشر وخطر الانقراض، نتيجة لجملة من الأمراض والإصابات التي تؤدي لزواله.

فالتاريخ، في فلسفة ديلثاي النقدية (فلسفة التاريخ  النقدية - بحث في النظرية الألمانية للتاريخ، ريمون ارون)، يعالج فكرة النهاية في منظور نقد العقل التاريخي.
بالإمكان القول إن تفكير ديلثاي نقدي جوهرياً، إنه يرى أن ميتافيزياء ارسطو وديكارت، أو المثالية الألمانية جزء من ماض انتهى  إلى غير رجعة، أما فلسفة التاريخ التي أخذ بها بوسويه الفرنسي،  أو هيجل الألماني، فإنها مدينة (مدانة) كما أدينت عقائد الإيمان المسيحي، كي نفهم أن (تاريخ التعب) هو التاريخ النقدي للعقل التاريخي، الذي يؤهل للإنسان نفسه تاريخ الجسد من خلال تاريخ الجمال وتاريخ القبح، في تعامله الثقافي بصورة تحديات لمفهوم التعب، وتحولاته عند فيغاريلو، بما يعني أن التعب هو البرهان القاطع في وعي الإنسان من منظور العقل التاريخي المثالي في معاناة الإنسان.
بين أن يكون للتعب جانبان من الجمال والقبح، لكي نتأكد من أوجه المقارنة في ما هو التعب؟
وكيف يتسلل إلى كونه فلسفة وتاريخاً مثالياً للبشرية المهددة بالانقراض نحو مناحي الجمال والقبح؟.
يطالعنا التعب في كتاب فيغاريلو الضخم، مثلما سنقرأ كتاب (تاريخ الجمال) لجورج فيغاريلو نفسه، إضافة إلى كتاب (التاريخ الثقافي للقباحة) لغريشنن أي هندورسن، كي تكتمل الصورة في أن الجسد يمثل اللبنة الأساسية في تاريخ البشر.
ولعل تاريخ التعب  الذي يحتوي على مقدمة و(5) أقسام، و30 فصلاً هو الذي  يحدد الإطار التاريخي  لمفهوم التعب  وارتباطه بالجسد، في العالم، بدءًا من العالم الوسيطي وتحدي المعالم، التي تعتمد في معنى التعب الجسدي، بما يمكننا وصفه بتعب المحارب والمسافر، الذي يمثل الصورة الواضحة للتعب آنذاك، بشكله الجسدي، حيث يصاحب التعب الحياة اليومية في العصر الوسيط بشكل عميق، وتعمل صورة الأجسام المنهارة، أو المنحنية على رسمها، سواء في تاريخ الجمال (الجمال المستكشف – القرن السادس عشر)، حيث يحاول تاريخ الجمال جعل الصورة المؤلمة أكثر بهاء، بينما يعكف التاريخ الثقافي للقباحة على زعامة، كل الصور القبيحة التي ذكرتها غريتشن أي هندورسن في (الأفراد القبيحون تشوهات مزعجة) تعكس مساوئ التعب بالنسبة للمحاربين والمسافرين، بما يلاقونه من النصب والضنك.
إن فيغاريلو يتناول النصوص التي تحمل طابع التعب، وكنا لن نقدر على حصرها في هذه المقالة، فإن الإشارة إليها يعقد الفكرة، لكن جل التعب آنذاك، هو ما من المقطوع به حاصل، لأن أكثر من يعاني منه المحارب والمسافر، في عالم جماله مستكشف، وقبحه صادم، أما في العالم الحديث فتحديه عبارة عن فئات، حيث بدا أن نمط التعب قد تحول إلى شكل من التخصص، بما يخص الفئات، وأصبحت صور التعب تتجاوز الجسد تدريجيا تنتقل إلى نحو ابتكار المفاهيم، بدل الأجساد التي توضع لمفهوم التعب سياقات فئوية، لأن العالم الحديث هدأت فيه الأجساد الجميلة أو القبيحة، وتم خلق أطر للتأثيرات في الأشكال والمحتويات، أي كف العالم الوسيطي من التذمر في اتساع الشقة المكانية والزمانية، لكن البؤس والمعاناة ظلتا ملمحين بارزين، يشكلان تطوراً ملحوظاً في عالم الأنوار بتحديه من قبل الانتقال من ما هو خارج الإنسان، ونابع من أديم الأرض نحو الإنسان نفسه، المتعلق بكل ما هو حسي، فالرهان هنا على المحسوس من أصناف التعب الممكنة، ومن اساليب مقاومتها، بعد أن تخطى الإنسان أعباء التعب المرهق، تاركاً الجسد يعي متغيرات المواجهة بين «مظهر الجسد ومظهر الذات»، التي بدت تتهيأ كي تحل مكانه، انشغال الإنسان طوال عصر الأنوار في التمييز بين الجمالي والقبحي على قدرة أحدهما في ادراك الحسي في التعبير عن معنى التعب الجديد، الذي بدا يظهر في أفق العالم الجواني في العصر الحديث، أي بعد القرن الثامن عشر، حينما انتبه الإنسان إلى ترميم العيوب الجسدية، بظهور المعالم الرومانسية، فكان ظهور (ماكياج) عام 1859 في القاموس الفرنسي للمرة الأولى، وتحول  معناه  من  تصحيح عيوب القبح نتيجة الجهد المضني للجسد البراني، إنما في التشديد على معناه الجديد (تعميق الانجذاب) من خلال صناعة  المستحضرات النباتية  خاصة، وانتشرت بين الطبقات العليا والوسطى، ولم تعد تهتم فقط بالألوان والسحن، وبالأشكال والقسمات  وباقي الجسد، بل تجاوزتها في أطر التعامل مع  التعب  بوجهيه الجسدي والذهني، استعداداً لعالم مختلف، القرن التاسع عشر من جهة (بوابة التحولات في نمط التعب من البراني إلى الجواني)، والافتراق في صورة التعب بالمفهوم السيكولوجي (القرنان العشرون والحادي والعشرون).
يقول فيغاريلو في مقدمة الكتاب: شهد القرنان العشرون والحادي والعشرون اتساعاً عارماً في مجال التعب، ضغط نفسي، إجهاد، واحتراق نفسي، وإجهاد ذهني، وامتدت أوجه الانهاك من مكان العمل إلى المنزل، من وقت الفراغ إلى السلوك اليومي.. إلخ.
إن الصورة المؤلمة للإنسان في هذا العالم الموشك على النهاية الحتمية، تمكنت من أن تحتفظ بتعب الإنسان حافزاً للحياة، والسعي من خلالها في التعلق بوعي جاد في تحمل أعباء التعب فيها بمساعدة وعي التاريخ، وفلسفته للتاريخ نفسه على أنه عبارة عن نقد للعقل التاريخي بطرق فلسفية.