الخواجة.. عقدة الرجع البعيد

ثقافة 2024/02/25
...

 تماضر كريم

عقدة الخواجة مصطلح يطلقه المصريون على الأشخاص، الذين ينظرون بعين الإكبار والتبجيل، لكل سلوك يصدر من الأجنبي، فيما يزدرون ذات السلوك إذا ما صدر من ابن البلد، وفي الحقيقة أن هذه العقدة هي ليست حكراً على المجتمع المصري، وأكاد أقول إنها مستشرية في بلدان كثيرة، وربما لها أسباب نفسية، تعززها المقولة العربية المعروفة «مغنية الحي لا تطرب». هذه الحالة واردة هنا وهناك، لكن ما لفت انتباهي في العراق تحديداً، من دون سواه من البلدان هو عقدة الخواجة الأدبية.
قبل فترة ليست يسيرة كتبت إحدى الأديبات المعروفات على صفحتها عبر «الفيسبوك» أنها لم تكن تقرأ السرد العراقي مطلقاً، ثم تكمل قائلة إن «من باب المصادفة قيام ابنها بعمل بحثٍ ضمن دراسته عن الرواية العراقية»، يبدو أن الفضول دفع الكاتبة الروائية لقراءة بعض الأعمال، فهي تشرح إعجابها ودهشتها بالسرد العراقي، الذي اطّلعت عليه بسبب بحث ابنها.
إنها ليست الكاتبة الأولى أو الوحيدة التي تقول ضمناً، أو صراحةً أنها لا تقرأ الأدب العراقي، وبالأخص السرد، فضلاً عن شراء كتب لروائيين عراقيين، لقد صرح كثيرون غيرها، فهم يفضلون ليس فقط الكتاب الغربيين، أو الروس، إنما يفضلون الكتاب العرب، وأستطيع القول إنهم يفضلون كل ما هو غير عراقي، لكن السؤال هنا هو: لماذا يواصلون التأليف، وإصدار الكتب، الواحد تلو الآخر، ما داموا ينصحون القراء ضمناً بعدم قراءة السرد العراقي؟
إن كثيراً من المثقفين العراقيين، سواء كانوا أدباء أم قراء، توقف الزمن الأدبي لديهم عند رواية الرجع البعيد، لذا يعدّون كلّما جاء بعدها محض محاولات تجريبية فاشلة أو نصف ناجحة، هذا منطق الكثيرين اليوم، مع القول بضعف السرد العراقي قياساً بالسرد العربي، واضعين رموزاً مهمة مثل «نجيب محفوظ في مصر، وحنا مينا في سوريا»، أمثلة على
التفوق.
إن المصريين تجاوزوا بكل أريحية مراحل أدبية كثيرة، ولم أسمع أن المصريين يزدرون أعمالهم المحلية، أو أن أديباً مصرياً يؤلف كتباً، ثم يصرح بأنه لا يقرأ للمصريين! إنما يحصل في مصر ملفت حقاً من تعزيز لمكانة السرد المصري، حتى أنني عندما قرأتُ لبعض الكتاب المصريين الجُدد ادركتُ حقاً أنهم يجيدون تسويق أدبهم، حتى المتوسط منه، وأنهم يصنعون تلك الهالة الساطعة التي تحيط بأدبائهم، فيما يمارس أدباؤنا دور الجلاد مع أنفسهم، ومع زملائهم.
هل أصبحت عقدة الخواجة الأدبية مستشرية إلى درجة أن احد الكتاب المعروفين قال بكلّ بساطة في جلسة ما:(نحن لا يوجد لدينا سرد عراقي)، ثم مجدداً ذكر الرجع البعيد، لكن حتى لو سلمنا بوجود مشكل في السرد العراقي، لماذا لم أسمع أحداً يذكر أين المشكل تحديداً؟
أليس معرفة سبب انحدار السرد العراقي -لو سلمنا بوجوده- هو بداية الحل!
وهل أصبح الرجع البعيد عقدة أدبية جديدة، يحلو لبعض الأدباء التذرّع بها كحجة على ما يظنونه من إخفاق في السرد الحالي؟
إذا كان العالم من حولنا عربياً وغير عربي، يقطع أشواطاً مهمة في مجال السرد، فما هو العائق أمام مؤلفينا لقطع ذات الأشواط؟ هل أن الدماغ العراقي مثلاً ذو تركيبة مختلفة؟ أم أن الخيال العراقي يعاني من النضوب بسبب الانغلاق عن العالم إبان التسعينيات، لكن ألم يساعد الإنفتاح الكبير على العالم في ما بعد على فتح آفاق جديدة؟ أم أن ما يشاع حول  نخبوية الأدب العراقي صحيح، بمعنى حصره في زاوية النخبة الثقافية، فبعد أن كان الفن والشعر والأدب أنشطة ثقافية تتداولها العامة في المقاهي والمجالس والمحافل المفتوحة، وكان الجميع متذوقين للفنون والآداب، حتى محدودي التعليم منهم ، باتت تلك الأنشطة منحصرة في النطاق الاكاديمي والمؤسساتي، ومغلقة على صفوة المهتمين والباحثين والمختصين! إنهم يجيبون عن هذا بالقول: إن ظواهر التغريب والغموض ومحاكاة الاتجاهات الغرائبية والسوريالية، وتقديم الفنان لذاته خالقا مبدعا جديرا بالالتفات اليه أمام الناقد، مبتعدا عن ساحته البكر الأولى، ساحة التلقي الغضة، كل ذلك زاد الهوة المتسعة بين الفنون وبين مدياتها الطبيعية عند الجمهور، لذا لم يكن من بد إلا أن تأتلف النخب في تلك التجمعات درءا لمخاطر عزلتها وانقطاعها عن قواعدها التي كتب عنها وإليها المنجز الثقافي.
إنها وجهة نظر واردة، لكن لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتمادها كشماعة على انحدار السرد العراقي بشكلٍ قاطع.
نحن بحاجة إلى تمحيص أسباب النظر إلى السرد العراقي بعين الازدراء، وأيضا سبب الجمود عند رواية الرجع البعيد، «نعم» إنها رواية جيدة، ونجيب محفوظ كاتب من الطراز الرفيع، لكن لا مؤشرات أبداً تشير إلى أن ثمة مشكلة تحول من دون وجود روائيين وقصّاصين عراقيين جيدين، لو كان ثمة قراء موضوعيون لا يعانون من عقدة الخواجة.