إعادة تصور تصاميم الجوامع في بنغلاديش
بانوراما
2019/05/25
+A
-A
ترجمة واعداد: مي اسماعيل
صمم بعض معماريي الحداثة مجموعة من المباني الدينية بمنظور ابداعي جديد في دولة اسلامية تقليدية الطابع. يستقر جامع “عنبر دينم” في جانب من مجمع لمعامل النسيج بالمنطقة الصناعية شمال العاصمة دكا (ذات الــ18 مليونا). جدرانه ترسم مجموعة متراكمة من المكعبات الكونكريتية (المثقبة في بعض الأجزاء) المحيطة بفناءات مفتوحة؛ وكأنها نقوش مبنى قديم.
استخدم المصمم أعمدة تبقت من بناء سابق لتكون ركائز للمبنى، بينما تفرعت أضلع من الحديد الدقيق مرتفعة نحو السقف وارتفاعه نحو 5.5 متر؛ وكأنها مظلات مفتوحة اتقاء للمطر. وفي صباحات أيام الربيع الحارة ترتد أشعة الشمس الحارة عن الخندق الضحل المحيط بالهيكل لتنتشر بهدوء فوق الكونكريت. اكتمل بناء الجامع سنة 2016، وهو المشروع الثاني الذي صممه مكتب “آرتشكراوند-Archeground” في مجمع معامل النسيج ذاك. كان المشروع الأول سقيفة لمكائن النسيج، مواد بنائه من الكونكريت وخشب البامبو وبعض الأنابيب مسبقة الصنع؛ التي استخدم بعضها في قاعة الصلاة. جاء التصميم حلا اقتصاديا متيسر التنفيذ ونموذجا للعمارة الصناعية بمقياسها الانساني، في بلد ابتلي بظروف عمل مؤسفة ومميتة أحيانا. كانت السقيفة تضم جزءا مخصصا للصلاة في احد اركانها؛ لكن العمال اشتكوا أن صوت المكائن يقطع عليهم خشوع الصلاة. لذا تقدم المكتب المعماري بطلب لتخصيص قطعة أرض أخرى لبناء جامع. يقول “جبير حسن” أحد معماريي المكتب: “أردنا إقامة فضاء للصلاة يناسب مناخنا؛ لذا فليس فيه نوافذ ولا أبواب. لكن الضوء يدخله من جميع الجهات”. شجّع جبير منذ تشييد الجامع نحو 1500 من المنتسبين على تقديم اضافاتهم الى المبنى؛ كنسج ستائر من البامبو لتقطع تيارات الهواء الباردة شتاء.. وكأن المستفيدين يقيمون جامعهم بانفسهم.
مركز الحياة المدنية
مازالت الجوامع تمثل مركز الحياة المدنية في شرق البنغال؛ وهي المنطقة القديمة المحيطة بدلتا أنهار الغانج وبراهمابوترا، في استمرارية بدأت منذ قدوم المسلمين (خاصة الصوفية) خلال القرن الثالث عشر لنشر الاسلام. يعتنق نحو تسعين بالمئة من سكان بنغلاديش اليوم (165 مليونا) الاسلام. والى جانب بعض الآثار القديمة لمعابد مشيدة من الطابوق الأحمر (بقايا أربعمئة عام من الحكم البوذي الذي انتهى في القرن الثاني عشر)؛ لم تصمد سوى هياكل لجوامع بسيطة (تكاد تكون متقشفة) تركتها حقبة السلطنة البنغالية، التي حكمت المنطقة حتى القرن السادس عشر.
هناك أيضا بعض المعابد الهندوسية والمباني العامة التي بناها المغول؛ وهؤلاء حكموا المنطقة حتى جاءت شركة الهند الشرقية البريطانية في القرن الثامن عشر. بخلاف تلك الآثار؛ كانت عمارة المباني الدنيوية (المساكن والتجارة وغيرها) في البنغال؛ وهي أرض تسودها المصبات وأشجار المانغروف (الغابات الساحلية)، والتربة المنزلقة والعواصف الغزيرة؛ تتألف غالبا من أكواخ مبنية من الطين أو البامبو، مسقوفة بالقش وأجنحة منفتحة تستوعب المناخ القاسي وغالبًا ما تستسلم له.
لكن بنغلاديش التي يعرفها العالم دولة حديثة نسبيا؛ فعندما أخلى البريطانيون قبضتهم الاستعمارية على معقلهم في الهند سنة 1947؛ انقسمت الدولة الحديثة على أساس ديني. أصبح الجانب الغربي من البنغال (ذو الأغلبية الهندوسية) ولاية في الهند، أما الجانب الشرقي فأصبح “باكستان الشرقية”؛ تفصله آلاف الأميال عن باكستان الغربية. في العقدين التاليين ظهرت حركة مقاومة في باكستان الشرقية الناطقة باللغة البنغالية؛ طالبت بالمزيد من التمثيل والحريات في مواجهة النخبة السياسية الناطقة بالأوردو في الجزء الغربي. وفي سنة 1971 (بعد حرب قصيرة قاسية) نالت بنغلاديش
استقلالها.
معماريون حداثيون
في السنوات الأولى من الاستقلال كان لبنغلاديش تقليد متميز ولكنه صارم لعمارة المساجد تستقي منه. ولكي يضعوا أنفسهم في إطار إسلامي أكثر عالمية؛ لجأ المعماريون هناك لإستعارة القباب التركية والأقواس المغولية المدببة والمنائر العربية الضخمة (وكلها عناصر راسخة في عمارة المباني الدينية الاسلامية) للدلالة على أهمية المبنى. لكن تلك الجوامع لم تكن تنتمي فعليا لعمارة البنغال. مع ذلك؛ تطور في بنغلاديش سريعا تقليد قوي هو الأكثر حداثة في منطقة جنوب آسيا. من أهم قادته المعماري “مظهر الاسلام”؛ الذي درس العمارة في أميركا وظلت كلية الفنون والحرف (التي اكتملت عام 1955 وأصبحت الآن كلية الفنون الجميلة بجامعة دكا) التي قادها بمثابة محك للمعماريين البنغاليين المعاصرين. في سنوات الستينات دعا مظهر الاسلام بعضا من مشاهير العمارة الغربيين (منهم- بول رودولف (استاذ العمارة الاسلامية بجامعة يال) وستانلي تايغرمان ولويس كان) للعمل في
بلاده.
نقّب مظهر وضيوفه وحللوا الأشكال التقليدية المعمارية المماشية للطبيعة التي كانت تميز المنطقة من قبل؛ واستخلصوا مزاياها. استخدموا الطابوق (وهو المادة الأصلية المحلية الوحيدة طويلة الأمد) مع الكونكريت لبناء هياكل بسيطة متوسطة الكلفة؛ فتحت جوانبها لعناصر المناخ بدلا من مقاومتها. كان بعضها مباني عامة (غير دينية)؛ إذ كان مظهر يأمل أن يعطي تجسيدا فيزياويا لتأريخ مشترك وتشكيل مستقبل سياسي ديمقراطي في الوقت نفسه.
يقول البنغاليون عادة أن دولتهم هي الوحيدة التي قامت على أساس لغة؛ ولعلها الوحيدة التي قامت على تقاليد الحداثة.
في السنوات الستين الماضية إنتقل هذا التقليد عبر أجيال من المعماريين؛ ما زال البعض منهم يصفون أنفسهم بأنهم “تلاميذ” مظهر الاسلام (الذي توفي سنة 2012 عن عمر 88 عام). مع ذلك؛ لم يكن بالامكان اقامة جامع مثل “عنبر دينم” سابقا. فالحداثة مفهوم علماني والجوامع مباني دينية. لكن تطورات القرن الجديد والنمو السريع لصناعة النسيج جلب موارد غير متوقعة لأحد أفقر بلدان العالم. تزايد عدد العوائل والمصالح التجارية التي تساهم في الزكاة؛ فجرى تمويل بناء الجوامع العامة على أراضي خاصة.
نشأ أولئك الرعاة والمعماريون لتقبل الجماليات الحداثية؛ ولكن دون الدوافع العلمانية لأولئك الذين قدموا تلك الجماليات.. لذا أدخل المعماريون ورعاتهم الحداثة ومثلها المثالية الى منظور تصميم المباني الدينية في وقت عانت دولتهم (وأجزاء كثيرة من العالم) من التطرف والارهاب. وكانت النتائج بعضا من أجمل الجوامع وأكثرها ابداعا وجرأة في التصميم..
جامع في البرلمان
حينما بدأ “لويس كان” تصميم مجمّع مباني البرلمان في دكا سنة 1962، وضع ضمنه تصميما لجامع أراده أن يكون أول الجوامع حداثية التصميم ببنغلاديش، وأن يبقى الأهم بهذا المنظور لعدة سنوات. جاء تصميمه بهيئة مكعب ضخم أنيق، تحف أركانه اسطوانات مجوفة
كبيرة.
وتمتد قاعة الصلاة داخل خندق ضحل يحيط بالمجمع الضخم بميلان بسيط؛ وكأن الاستدارة جاءت بفعل تيار خفيف. كسرت تلك الاستدارة التناظر التام في أجزاء المبنى وحققت الاتجاه الدقيق للمحراب نحو القبلة في مكة. في الداخل كان المصلى مسرحا للوحات جميلة من تحولات الظل والضوء والملمس؛ فحول الأركان دارت ثماني نوافذ منحنية، وانتقلت أقواسها المتتابعة الى الأعمدة المجوفة وكأنها عقود طائرة. يتغلغل ضوء الشمس من قمم الأعمدة المفتوحة ليتكسر على التباينات النحتية لجدران الكونكريت المصبوبة
يدويا.
ومن الأركان أيضا ترتفع مقرنصات (= مثلثات كروية)؛ كأنها بداية تكوير القبة التي لم تتجسد. وبدلا منها وضع “كان” أقرب تصميم ممكن لشكل القبة الحقيقية (وهي الرمز الأكثر تأثيرا وظهورا في العمارة الاسلامية، خاصة الدينية منها) لتكون سقفا لقاعة الاجتماعات المجاورة للمصلى؛ هيكل مثمن مقبب يرتفع نحو 35.5 مترا فوق فضاء مخصص للعمل الدنيوي: الحكم! فكانت قاعة الاجتماعات فخمة؛ أما الجامع فمهيب مكتفٍ بجلال وظيفته. وكأن المبنى يعني أن الديمقراطية قد تصير دينا للدولة، معززة بإيمان رصين شامل.
ميشيل سنايدر
صحيفة نيويورك تايمز