شكسبير درسٌ لا بُدَّ منه

ثقافة 2024/02/26
...

 عباس منعثر

لن يكون الحديث عن الشك؛ تركنا ذلك لديكارت. لو كان شكسبير ذو الشاربين هو ما نقصد بهذه المفردة أو أي شخص آخر، فلن يغير ذلك من أن السونيتات المذهلة أو التراجيديات المسرحية تبقى واحدة من أهم مناهل الخيال عمقا وتأثيرا.الحكي ينبغي أن تسنده الأدلة. لنأخذ مثالا من الذاكرة. يأتي هوارشيو في مستهل مسرحية هملت بصحبة آخرين كي يتأكدوا من ظهور شبح غريب.

كان هناك رجال يحرسون وبينهم وبين القادم كلمة سر. يتساءل أحدهم: كيف كانت ليلتك؟ يجيب الآخر: لم يتحرك فأر. قد يبدو الحوار عاديا جدا. لكن العادي ليس عاديا إن نظرت إليه من زاوية غير عادية. كان بالإمكان الإجابة على السؤال: كانت ليلتي هادئة. وهنا يكمن بالضبط الفرق الأساسي بين المهارة وبين التدوين. جملة (لم يتحرك فأر) تلّخص كل العبقرية الشكسبيرية. فمن جهة أولى تخبرنا بطريقة غير متوقعة، بطريقة شعرية عن حدث عادي، ومن جهة ثانية تنبهنا الى عنصر الصورة في الأخبار، ومن جهة ثالثة تعدد الدلالات. كيف؟ لنختبر ما يمكن استنباطه من العبارة البسيطة العادية: لم يتحرك فأر.

أولا: يريد المتحدث أن يبرهن على سعة خياله. لأنه ببساطة يتمايز عن الفرد العادي، الذي يجيب عن سؤال عادي باجابة عادية.

ثانيا: يحاول هذا الشخص أن يعطي انطباعا عاما عن أن الجموع واسعة الثقافة والخيال بحيث انها تنطق بالشعري حتى في أشد حالاتها يومية؛ بل ورسمية.

ثالثا: أراد المتحدث ان يعطي صورة قاهرة لهدوء الليلة.. إذ إن فأرا لم يتحرك.

رابعا: أراد المتحدث أن يمتدح يقظته الشخصية حينما اشار انه لو تحرك فأر لكان رصد تحركه.. بمعنى انه جندي موثوق منه لحماية المملكة.

خامسا: وهو ما يتعلق بالبنية الاسطورية للمسرحية: برغم هذا الهدوء، ثمة مصائب ستقع قريبا.

يأخذك شكسبير في جملته، تضيع بين تراكيبه، وعليك أن تنقب. إذا لم تتسلح بعدة رصينة لن تنال سوى أصغر السمك على الشاطئ؛ أما إذا توغلت الى قلب النهر، فثمة مستويات ستنزل فيها ملتقطا الدرر حتى تغرق. مع شكسبير لا بد أن تغرق. هذه شروطه الاساسية: الغرق. عليك أن تسلم القياد الى غير ثقافتك، الى غير لغتك، الى غير تقصيك المعنى المحدد الموصول اليه استنادا الى الثنائية كلمة= معنى. مع شكسبير هناك حلقة وسط: التركيب. بدءًا، هناك تعرجات من التركيبات الثنائية، ثم الثلاثية ثم الرباعية؛ وعليك ان تكون ذا نفس طويل كي تصل الى اخر الخيط ولم تختنق بعد. من الطبيعي أن تمرّ معه بعدم القابلية على استلام الوهج كاملا. سيصيبك شيء من العمى المؤقت؛ بازدراء الفخامة، باحتقار الاكتمال. ستجده فائضا كل هذا التراكم؛ وكأنك أمام وجبة ألذ ما فيها دهونها التي لم يعتد جسمك على امتصاص كمها المضاعف. سيعلقك شكسبير طويلا. فما أن تطمئن أنك على وشك أن تصل الى ذيل المعنى حتى يتمدد توقعك. ولن تتوقف: هو سيل عارم كل موجة فيه اعلى من سابقتها، فكيف توقف اللحظة إذن؟! الكلمة حارس يسلمك الى الحارس الذي يليه مقيدا بالاستمرارية: كرة الثلج هذه لن تتركك إلا وقد مزقتك في أسفل الوادي الى تساؤلات.

استياءً من الضخامة، لنتوجه الى البساطة. لن يغريك كثيرا قاموسه المعجمي المتكون من (20 ) ألف كلمة، في حين عاش عمالقة كبار على ما لا يتجاوز الـ(6) آلاف؛ ولن تعطي بالا الى الألفين كلمة التي اضافها الى قاموس الانكليزية بضمنها ضمائر وافعال، ولا الامثال التي يستخدمها العالم انطلاقا من عباراته، ولا أنه يتمطى على الشفاه يوميا لعشرات المرات، ولا أن يقدم عرضا لمسرحياته كل يوم تقريبا. ما يغريك حقا انه توغل إلى أعماق لم تسبر، وعبر عنها بلغة لا تبلى، وأنتج أسئلة خالدة تجاوزت العرق والجنس واللون الى أرحب آفاق الإنسانية. ما يغريك تلك الطبقات اللامحدودة، مثل بيت تظن أنه يتكون من غرفتين، فإذا بكل غرفة تنفتح على ما لا يحصى من الأبواب، التي تنفتح بدورها على جبال وبحار وصحارى.  أخلاقياً، تسحبك صرامة الجملة الشكسبيرية الى وجوب وضع ذاتك في غربال، تسقط من خلاله أناك. انت مع شكسبير بلا أنا. لو حضرت ومعك هذه الأنا الاجتماعية أو الأدبية، سيبدو لك وقحا متعالما متعاليا أجوف. ولو اجبرتك الأنا الشكسبيرية على الذوبان فيها لتفتحت لك الاخلاق: وضاعة انسانية قاهرة تسوقك الى النبل الكامل. أكبر درس اخلاقي يعطيه التركيب الشكسبيري اللغوي لا الفحوى الاخلاقية: هو التواضع. أنت إمام هذا الهرم العملاق عليك أن تخلع نعليك وأناك معا.. يجب أن تنحني لا لأن باب الدخول إلى محرابه واطئ، بل لأنه من الشساعة بحيث يطاطئ رأسك عند الدخول مع ظنه إنه يحاول الارتفاع. 

المعمار الشكسبيري على ضخامته يصاغر الفرد الداخل اليه. وكما يحدث في كنيسة شاهقة السقوف، كثيرة الرسوم والتصاوير، عديدة الزوايا، يصدمك الكل المتكامل نتيجة فداحة التفاصيل. وبذلك، يمكن لشكسبير أن يعمل فيك ويتحقق. حينها فقط ستنحني اللغة، ويسجد الخيال.