غودار: المونتاج همُّنا الجميل من خلاله نرى العالم بعيون جديدة

ثقافة 2024/02/26
...

  كتابة ماركوس أوزال

  ترجمة: مبارك حسني

أكد جان لوك غودار، أعظم مخرج سينمائي واختصاصي توليف، أنه إذا كان التصوير في نظره لحظة عنف كبير، فإننا أثناء المونتاج، على العكس من ذلك، نشعر باليوتوبيا مثل حيوان أليف. ومن المثير للدهشة حقا أن نجد هذا البعد الطوباوي في غنائية البيانات العظيمة حول المونتاج، ولا سيما تلك الخاصة بالطلائع السوفييتية والفرنسية في عشرينيات القرن العشرين (غانس، وإبستاين، وآيزنشتاين، وفيرتوف...)، حيث لا يعتبر كذلك. فقط باعتباره الشكل الأكثر تحديدا للفن السينمائي، ولكنه أيضا الأكثر ثورية، كإمكانية رؤية العالم بعيون جديدة.
في نصه الشهير «المونتاج، همي الجميل" (دفاتر السينما عدد 65)، يعقد كودار هذه المقارنة التافهة: لنفترض أنك رأيت فتاة صغيرة في الشارع فأعجبتك. أنت تتردد في مطاردتها.

طيلة ربع ثانية.  كيف يمكن نقل هذا التردد؟ 

للإجابة عن السؤال "كيف يمكن مباشرتها"، الاخراج هو من سيتكفل بذلك. 

لكن لكي نجيب عن هذا السؤال الآخر بوضوح: «هل سأحبها؟»، يتوجب إعطاء الأهمية لربع الثانية التي يولدان فيها معا، وهنا تكمن وظيفة المونتاج. وهو ما يجعل كودار يقول: إذا كان الإخراج نظرة، فإن المونتاج هو خفقة قلب. بفضل خفة شبابه، قام بتجميع العديد من الأفكار الأساسية حول المونتاج.

 أولاً، أنه يجلب ما يمنح الحياة للفيلم حقًا: إيقاعه، وموسيقاه.  لكن القلب الذي ينبض هو أيضًا المشاعر، والعمليات الداخلية (هل سأحبه؟)، والارتباطات النفسية أو الذاكرة التي يمكن أن يمنحها المونتاج وحده.

الأمر الثالث الذي تقوله استعارة غودار الصغيرة، هو أن اختصاصي المونتاج لن يغادر الشارع، ولن يغيب المارة عن نظره، بل على العكس سيسمح بأن يُنظر إليهم بطريقة أكثر كثافة. 

وهذا يوافق فكرة دزيكا فيرتوف العظيمة حول المونتاج، الذي ليس "إلصاق مجموعة من المشاهد، التي تم تصويرها بشكل منفصل، وفقا للسيناريو، ولكن كتنظيم للعالم المرئي".  نستذكر هذه الأفكار القادمة إلينا من زمن بعيد، عندما كان ظهور الآلات يشكل تحريرا للحركات والتصرفات، وحيث كانت السينما هي فن هذا الشباب الجديد للبشرية. لذا، يمكننا أن نجعل من مدينة بأكملها الموضوع الوحيد للفيلم، ونظهرها كما لم نشاهدها من قبل، ونجعل الناس يشعرون بحركاتها المتعددة (الرجل صاحب الكاميرا لفيرتوف؛ برلين، سيمفونية مدينة عظيمة لوالتر روتمان).

إنها فكرة مذهلة أن نعتقد أن الفن يمكنه بالتالي إعادة تنظيم العالم لرؤيته بشكل أفضل، وتجربته، ولكن أيضًا تغييره.  للقيام بذلك، يجب أن نشعر بحماس حيث يسير جنبا الى جنب الطموح الفني رفقة اليوتوبيا السياسية. مع حلول السينما الناطقة ثم الحرب العالمية الثانية وبداياتها، حطمت الثلاثينيات هذه الأحلام وأخذت السينما نحو شيء مختلف.  

بعد ذلك بوقت طويل، في عام 1998، قال غودار: «المونتاج قارة لم تكن موجودة، وأعتقد أنها لن توجد، ولن تكون بأي حال من الأحوال بالشكل الذي صنعه به الفيلم الصامت"  وهو كان يعرف جيدًا ما يتحدث عنه، هو الذي قاد العودة العظيمة في الستينيات والسبعينيات، إلى ما قدمته العشرينيات من  الماضي، ولا سيما من خلال جماعة دزيكا فيرتوف الرائعة. 

إنها القترة التي أعادت خلالها دفاتر السينما نشر نصوص فيرتوف وآيزنشتاين، وأعادت تقييم إبستاين وغانس، وحيث كل ما كانت تحتويه تلك السينما مما كان فاعلا بشكل كبير فكريًا وجماليًا وسياسيًا، أعاد التفكير من جديد عبر النصوص والأفلام في الإمكانيات الثورية للسينما.

من المؤكد أن المونتاج لم يعد قارة، وربما لم تعد السينما تتمتع بالقدرات أو الطموحات اللازمة للعمل من أجل مستقبل العالم" (كما قال برول وبيرو، المخرجان والاختصاصيان الكبيران في المونتاج للسينما المباشرة في كيبيك)، بل فقط أرخبيلات لا تزال قائمة وبادية للعيان.  

كان غودار يعرف ذلك جيدًا، فهو الذي لم يستسلم لشيء، واستمر، حتى آخر نفس، في جعل المونتاج جميلًا، ومؤثرا عاطفيا، وهمه الرهيب - هما منشغلا بالإنسانية، منشغلا بتاريخها وبمستقبلها و- ولكن على حساب قدر كبير من العزلة.  إن الاحتفاظ بهذه الذكرى لما كانت عليه السينما وما حلمت به يبقى بالنسبة لنا طريقة حتمية للنظر إلى حاضرها، مع عدم التفريط اطلاقا في ما تتطلبه، كما الأمل الطيب.  هل هو الحنين يعادونا؟  لا، إنه المونتاج. عن "دفاتر السينما" الشهرية الفرنسية، عدد 

تشرين الثاني 2023