سناء الوادي
يا له من أمر مثير للسخرية، فقد تحول مشهد الإطلاق التجريبي لصاروخ «ترايدنت 2 دي 5» الباليستي من رعب سيزعزع فرائص الدب الروسي، إلى أكثر المشاهد الكوميدية الشبيهة بمفرقعات رأس السنة، والتي قد أسعدت سيد الكرملين وأثارت شماتته بالغرب الذي كان يلمح منذ أيام إلى تقادم الثالوث النووي الروسي، حيث لم يخضع للتجريب في السنوات الأخيرة.
وكعادة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ولانفراده بطريقته العملية في الرّد على كل مزاعم واشنطن ولندن، قام بامتطاء إحدى قاذفات القنابل الاستراتيجية فوق الصوتية الأربع، التي تسلّمتها موسكو مؤخراً «تي يو 160إم» في رحلة جوية، معلناً بعدها بيوم واحد استكمال دولته تحديث 95% من الأسلحة النووية الروسية الاستراتيجية، وبخاصة تلك التي تشكل الذراع البحري، وهو الأهم والأخطر في ثالوث الردع النووي، لكن لم يكن متوقعاً أن يكون الأمر بائساً لهذه الدرجة بالنسبة لبريطانيا، والتي كان من المحتمل أن يتسبب فشل إطلاق هذا الصاروخ بموت وزير الدفاع البريطاني بسبب وقوعه على الفور على بُعد ياردات فقط من مكان إطلاقه، تُزامن هذه الحادثة التوقيت القاتل من المواجهة المحتدمة بين معسكري الشرق والغرب لإنهاء القطبية الأحادية السائدة، ناهيك عن التقدم الروسي الهائل في مدن محورية من دونيتسك ومحاصرتها لمدينة روبوتاين جنوب أوكرانيا، ما ينذر بأن الانتصار الروسي بات وشيكاً للغاية.
على المقلب الآخر فإنَّ فشل منظومة ترايدنت للمرة الثانية يعيد لأذهان الشعب البريطاني ما حدث عام 2016م وتزايد المطالبات الداخلية آنذاك بالتحقيق في كمّ التمويل الهائل لهذا المشروع ومطالبة وزارة الدفاع البريطانية بتقديم ضمانات حوله، في حين أنها كانت تؤكد موثوقية هذا البرنامج، وهنا لا بد من الذكر أن صواريخ ترايدنت 2 تلك المملوكة للندن هي المشغل الرئيسي لغواصات «فانغارد «الجناح الملكي للبحرية البريطانية، فضلاً عن أنها من إنتاج شركة لوكهيد مارتن الأمريكية وهذه النسخة تحديداً موجودة لدى واشنطن وتباهي بها لتشغيل غواصاتها النووية، وهذا ما يثير الشكوك والقلق الفعلي عند الأخيرة، حول إحكام امتلاكها للردع النووي الثالوثي وحول إمكانية التلويح بها مستقبلاً أمام الخطر الداهم.
وعلى الرغم من إدراك لندن وواشنطن الضمني بوجود بعض العيوب في برنامج التشغيل الأساسي لغواصة فانغارد المعلن عنه منذ ما يزيد عن أربعة عقود، ما دفعهما لتجهيز البديل وهو «دريدنت» واحتمالية البدء به في عام 2032، لكن الوقت ليس في مصلحة الجانبين وإلى أن يتم إدخال المنظومة الجديدة طور الخدمة الفعلية، كيف ستتلافى تلك الدولتان الكبيرتان التحديات التي تضعهما بها الصين وروسيا، فهذا الفشل سيشجع بوتين لتنفيذ مخططاته في إنهاك أوكرانيا بالسرعة القصوى، لا سيما استغلال نفاد الذخيرة عند كييف، وتعثر صفقة المساعدات الأمريكية والبالغة ستين مليار دولار، فالكونغرس الذي يعرقل هذه الصفقة ويمنعها عن الأوكرانيين كيف سينظر إلى هشاشة الثالوث النووي الأمريكي الرادع، بسبب عدم كفاية التمويل، حيث كان قد وصف وزير القوات الجوية «فرانك كيندال» في ديسمبر 2023م - بأن مشروع تحديث الثالوث في محنة وهذه المشكلات تؤثر في كل جزء من منظومة الردع ككل- .
وفي هذا السياق لا بد من التعريج إلى ما تداوله مجلس النواب الأمريكي قبل أيام حول مخاوف من إطلاق موسكو صاروخاً نووياً مدارياً إلى الفضاء الخارجي، لغرض تدمير الأقمار الصناعية وتعمية العيون الأمريكية الغربية، وهذا ما يعني ضرب تفوقها على الدب الروسي في هذا المجال، والجميع متيقن من امتلاك روسيا لمثل هذه الصواريخ، وعلى الرغم من نفي موسكو احتمالية قيامها بذلك، فهي ملتزمة باتفاقية منع التسلح النووي للفضاء المبرمة عام 1967، وبطريقة أو بأخرى فإن فضيحة فشل منظومة ترايدنت يعني أن غواصة فانغارد قد تطيل البقاء في مرساها على ساحل سكوتلاندا الغربي، فضلاً عن أنَّ ذلك يعدُّ اعترافاً بتزعم موسكو لثالوث الردع من بين الدول الست المالكة للثالوث، وهذا سيضفي الرهبة والمصداقية لكل تهديد تطلقه موسكو في وجه أعدائها.
فالغواصات النووية وصواريخها كما أسلفت تشكّل الذراع الأهم والأخطر من أذرع الثالوث الجوي والأرضي، فمن المستحيل إمكانية التتبع لغواصة ترقد تحت الماء عدّة شهور، ومن ثَمَّ تباغت الأعداء بصاروخ يشق عباب المحيط ليصيب هدفاً برّياً.
كاتبة سورية