أزمة البحر الأحمر تختبرُ طموحات الصين العالميَّة

بانوراما 2024/02/27
...

 نيكتار غان
 ترجمة: بهاء سلمان

مع استمرار الحوثيين بالانقضاض على الملاحة التجارية داخل البحر الأحمر، تفرض الأزمة العميقة اختبارا جديدا لطموحات الصين الهائلة لتكون صانع القرار الجديد في الشرق الأوسط. وعملت الهجمات على واحد من أهم المسارات الملاحية للعالم على قلب التجارة العالمية وإثارة المخاوف من اتساع رقعة النزاع الاقليمي بعد مرور أكثر من أربعة أشهر على اندلاع حرب غزّة.
إلى وقت قريب، كان الرد الصيني المعلن تجاه أزمة البحر الأحمر محدودا بدعوات إلى وضع نهاية للهجمات على السفن المدنية، وانتقاد مبطن على العمليات العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة ضد قوات الحوثيين في اليمن، والتي يقول عنها المحللون إنها بعيدة تماما عن تطلعات بكين العالمية.

ويقول "مورديكي تشازيزا"، المتخصص بالعلاقات الصينية مع الشرق الأوسط: "إن الرد الصيني المتوجس أو المتردد يلقي بظلاله الهائلة على طموحاتها كقوة عالمية ذات مسؤولية كبرى.
ومع عدم إبداء بكين استعدادا للدخول بشكل مباشر في الأزمة، سعت الولايات المتحدة لحث الصين لأجل الضغط على إيران، لكي تطلب من الحوثيين إيقاف شن الهجمات على السفن المتجهة بحمولتها وبضائعها إلى إسرائيل.
مغانم الصين كبيرة في المنطقة في ضوء كونها الدولة التجارية الأكبر على مستوى العالم، فمعظم الصادرات الصينية المتجهة نحو أوروبا تمر عبر البحر الأحمر، فيما تنتقل عشرات الملايين من أطنان النفط والمعادن عبر هذا الممر المائي لتصل إلى الموانئ الصينية.
الأمر يمثل أيضا تحديا دبلوماسيا بالنسبة للرئيس الصيني "شي جينبينغ"، الذي تعهّد خلال السنوات الأخيرة بالمساهمة بدور رجاحة العقل الصيني لتعزيز السلام والطمأنينة في الشرق الأوسط" كجزء من مبادرته لتقديم بديل عن النظام الأمني ذي الزعامة الغربية.
بدأت قوات الحوثيون إطلاق الصواريخ والطائرات المسيّرة على السفن في البحر الأحمر منذ منتصف تشرين الثاني الماضي؛ كتحرّك للتضامن مع الفلسطينيين، لكن العديد من السفن التي لا ترتبط بإسرائيل تم استهدافها.
وكان الرد الصيني هو إلتزام الصمت بشكل ملفت للنظر، فهي لم توجه إدانة للحوثيين، كما لم تستجب سفنها الحربية لنداءات الاستغاثة من السفن القريبة التي تتعرّض للهجوم.
كما رفضت الصين تحالفا متعدد الجنسيات بقيادة الولايات المتحدة لحماية السفن العابرة للبحر الأحمر، رغم أن البحرية الصينية لديها قوة تعمل على مكافحة القرصنة في منطقة خليج عدن، فضلا عن قاعدة للدعم في جيبوتي المجاورة لمضيق باب المندب الواقع تحت سيطرة قوات الحوثيين اليمنية.

قلق من القادم
خلال الفترة الأخيرة، عندما بدأت الولايات المتحدة وبريطانيا ضربات عسكرية ضد أهداف الحوثيين في اليمن، أصبحت بكين أكثر صخبا في إثارة المخاوف بشأن التوترات؛ ودعت إلى وضع حد للهجمات على السفن المدنية وحثت "الأطراف المعنية على تجنب صب الزيت على النار،" مشيرة إلى أن مجلس الأمن الدولي لم يعْطِ ترخيصا أبدا باستخدام القوة من قبل أي دولة في اليمن.
وشدد المسؤولون الصينيون مرارا وتكرارا على أن أزمة البحر الأحمر هي "امتداد" للصراع في غزّة، مشيرين إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزّة بوصفه الأولوية القصوى.
منذ بداية الحرب بين إسرائيل وحماس في السابع من تشرين الأول الماضي، سعت الصين إلى تقديم نفسها باعتبارها قوة الجنوب العالمي وبديلا للقوة الأميركية من خلال التعبير عن دعمها للقضية الفلسطينية وانتقاد إسرائيل والولايات المتحدة بسبب دورهما في الأزمة الإنسانية التي حلت بقطاع غزّة.
ويعكس إحجام بكين عن الخوض في أزمة البحر الأحمر هذه الحسابات الجيوسياسية.
يقول تشازيزا: "لا توجد للصين مصلحة في الانضمام إلى تحالف غربي بقيادة الولايات المتحدة؛ فمثل هذا الإجراء من شأنه أن يعزز مكانة الولايات المتحدة كقوة مهيمنة اقليمية ويضعف موقف الصين في المنطقة."
خلال اجتماعات مع وزير الخارجية الصيني "وانغ يي" في بانكوك أواخر شهر كانون الثاني الماضي، حث مستشار الأمن القومي الأميركي "جيك سوليفان" بكين على استخدام "نفوذها الكبير مع إيران" لوقف الهجمات، وفقا لتصريح مسؤول كبير لدى البيت الأبيض الأميركي للصحفيين، قال فيه: "هذه ليست المرة الأولى التي ندعو فيها الصين إلى لعب دور بنّاء.
بكين تقول إنها تثير هذا الأمر مع الإيرانيين، وأعتقد أنكم رأيتم ذلك ينعكس في بعض التقارير الصحفية؛ ولكننا بالتأكيد سننتظر رؤية النتائج قبل أن نعلّق أكثر على مدى فعالية تفكيرنا، أو ما إذا كنا نعتقد أنهم يزيدونها بالفعل."

مطالب عسيرة التنفيذ
ونقلا عن مصادر إيرانية، ذكرت رويترز خلال الأسابيع الماضية أن المسؤولين الصينيين طلبوا من نظرائهم الإيرانيين، عبر عدة اجتماعات عقدت مؤخرا، المساعدة في كبح جماح حركة الحوثيين، أو المخاطرة بالإضرار بالعلاقات التجارية مع بكين.
ويعلق مسؤول إيراني تسنى له الإطّلاع على المحادثات "إن الصين تقول إذا تضرّرت مصالحنا فسوف يؤثر ذلك على أعمالنا مع طهران.. لذلك، أبلغوا الحوثيين بضبط النفس".
ولم تذكر مصادر الحكومة الصينية للاجتماع بين وانغ وسوليفان شيئا عن البحر الأحمر.
كما نوهت وزارة الخارجية الصينية بأن حكومة بلادها قامت بتهدئة الوضع بشكل نشط منذ اليوم الأول" وكانت "على إتّصال وثيق مع مختلف الأطراف وعملت بنشاط على تخفيف التوترات في البحر الأحمر."
وعلى الرغم من أن الحوثيين قالوا إنهم لن يستهدفوا السفن الصينية أو الروسية، إلا أن مصالح الصين مهددة بسبب الأزمة بضمنها العديد من شركات الشحن العالمية، وقامت شركتا الشحن الصينيتان المملوكتان للدولة (كوسكو وأوكول- COSCO وOOCL) بتحويل عشرات السفن من البحر الأحمر إلى طريق أطول بكثير حول الطرف الجنوبي لأفريقيا المعروف بإسم "رأس الرجاء الصالح"، وفقا للبيانات التي جمعتها شركة لوجستية مقرّها في سويسرا.
وعادة ما تضيف مثل هذه التحويلات أكثر من عشرة أيام إلى الرحلة، مؤدية إلى تأخير عمليات التسليم وزيادة تكاليف الشحن.
تقول شركة الخدمات اللوجستية العالمية فليكسبورت، ومقرّها سان فرانسيسكو، إن 90 بالمئة من البضائع المشحونة من الصين إلى أوروبا تاريخيا كانت تنتقل عبر البحر الأحمر، لكن تلك الحركة تتجه الآن حول أفريقيا.
وبسبب الاضطراب، ارتفعت أسعار الشحن البحري من شنغهاي إلى أوروبا بأكثر من 300 بالمئة خلال فترة الشهور الثلاثة الماضية، وفقا لبورصة شنغهاي للشحن، مشكّلة بذلك تحديا كبيرا للمصدرين الصينيين في اقتصاد متباطئ مسبقا.

علاقات معقدة
وربما يأتي الضغط لأجل التحرّك من خلال شركاء الصين الإقليميين أيضا، إذ قال "جوناثان فولتون"، الزميل الأقدم ضمن المجلس الأطلسي ومقرّه أبو ظبي، إن تقاعس الصين قوّض مصداقيتها لدى الجهات الفاعلة الإقليمية، مضيفا: "إن التصوّر بأنها قوة ناشئة من خارج المنطقة لن يصمد إذا لم تحاول التدخّل في شؤون هذه المنطقة، وان التحالف الأميركي ضد الحوثيين يتحمّل العبء الثقيل، بينما تكتفي الصين بالمراقبة، وهي نظرة سيئة، عندما ينظر الزعماء الإقليميون إلى الصين بوصفها نمرا من ورق."
تعطيل التجارة يضر بمصالح الجميع، حيث تخسر مصر ملايين الدولارات يوميا بسبب انخفاض حركة المرور من قناة السويس عند الطرف الشمالي للبحر الأحمر.
أما السعودية، التي تجري محادثات سلام مع الحوثيين بعد تسع سنوات من الحرب ضدهم في اليمن، "فلا يمكنها القيام بأي شيء مباشر دون أن تصبح هدفا للحوثيين، لذا فهي تريد من الآخرين أن يفعلوا شيئا،" بحسب فولتون.
هذا الحال يترك الصين في موقف صعب، إذ يتعيّن عليها أن تعمل على إيجاد توازن دقيق بين إيران، الحليف المناهض للولايات المتحدة، وبين دول الخليج، التي يمكن اعتبارها شركاء الصين الاقتصاديين الأكثر أهمية في
المنطقة.
وكانت بكين قد توسّطت لإجراء تقارب تاريخي بين السعودية وإيران، لكونهما الندين الإقليميين الأكبر منذ فترة طويلة، لكن وقف هجمات الحوثيين قد يكون مهمة شائكة بالنسبة للصين، بحسب المحللين.
ويقول فولتون: "كان هناك زخم كبير لهذه الفكرة لدرجة أن الصين أصبحت لاعبا دبلوماسيا وسياسيا وأمنيا رئيسيا.
غير إن الأحداث التي تلت الحرب بين إسرائيل وحماس "أظهرت حقا أن نهج الصين تجاه المنطقة لا يزال مدفوعا إلى حد كبير بمصالحها الاقتصادية، وأنها لا تملك حقا الرغبة أو القدرة على لعب دور مهم للغاية في المجالات الأخرى حتى الآن."

مبادرة متعثرة
وكانت الصين أكبر شريك تجاري لإيران طيلة العقد الماضي، وتشتري 90 بالمئة من صادرات النفط الإيرانية، ومع ذلك فإن مدى إمكانية ترجمة ذلك إلى نفوذ سيكون بمثابة اختبار لرأس المال السياسي في بكين.
ويقول "ويليام فيغيروا"، الأستاذ المساعد من جامعة غرونينغن الهولندية: "الواقع يشير إلى أن الصين لديها نفوذ محدود للتأثير فعليا على إيران، كما إن الاستثمارات الصينية لدى طهران قليلة نسبيا، وستكون السياسات واللوجستيات المتعلّقة بإنهاء تجارة النفط بالكامل معقدة.
هذا لا يعني أن الصين لا تستطيع أو لن تلغي فعليا أي صفقات أو تقلل واردات النفط لمعاقبة إيران، لكنه يعني أن من غير المرجح ظهور تأثير صيني على إيران ما لم يتم استهداف السفن الصينية بشكل صريح أو استمرار التصعيد."
كما أثار تصاعد الصراع في الشرق الأوسط تساؤلات حول مبادرة الأمن العالمي التي أطلقها الرئيس الصيني، والتي روّجت لها بكين بوصفها "الحلول والحكمة الصينية لحل التحديات الأمنية.
" وتدعو المبادرة، التي أطلقها الرئيس سنة 2022، إلى مجموعة من المبادئ العريضة للسياسة الخارجية الصينية، بضمنها "حل الصراعات من خلال التنمية والقضاء على الأرض المناسبة لانعدام الأمن."
يقول فولتون: "إن مبادرة الرئيس الصيني ذات دوافع معيارية للغاية، إذ أن الحلول الاقتصادية لانعدام الأمن ستغيّر هذه المشكلات.
" وقد حظي هذا المفهوم بقبول جيد بين الحكومات الاقليمية التي أرادت التنمية الاقتصادية والمزيد من الاستثمار الأجنبي المباشر.
ويبدو أن الأمور تسير في هذا الإتجاه لفترة من الزمن.
وكان وانغ، كبير الدبلوماسيين الصينيين قد أعلن صيف العام الماضي بأن "موجة المصالحة" تجتاح الشرق الأوسط بمساعدة الصين.
ولكن هذه الرؤية تحطّمت عندما اندلعت الحرب في غزّة يوم السابع من تشرين الأول الماضي، الأمر ما أدى إلى اغراق المنطقة في تجدد الصراع.
"كما يلاحظ ما حدث منذ ذلك الحين، عندما تكون هناك تهديدات أمنية حقيقية فعلية، على شكل هجمات على الشحن العالمي، فلم تعد الأمور المعيارية ذات أهمية، فهم بحاجة إلى حلول أمنية فعلية صعبة،" بحسب فولتون.

وكالة سي أن أن الاخبارية الاميركية