رعد أطياف
قد يحلو الأمر لكثير من المراقبين للشأن السياسي العالمي، ومنهم الأمريكان بالطبع، من أن ترامب يشكّل تهديداً للديمقراطية الليبرالية. ولهؤلاء من الأدلّة ما يكفي، لكي يذعن الآخرون لقلقهم المتنامي فيما إذا لو تقلّد ترمب فترة رئاسية أخرى، إذ يكفي أن نستذكر ما فعله في فترته السابقة، وكانت فترة آذنت بنهاية مفهوم العولمة والرجوع بخفي حنين للحمائية الاقتصادية.
حتى أن الرجل لم يكن ليهتم بمغامرات الولايات المتحدة الخارجية، من أجل ترسيخ «الديمقراطية» في أرجاء العالم، عن طريق الحروب المدمّرة كان أحد ضحاياها الشرق الأوسط؛ فبعد أن كان العراق نظاماً سياسياً متهماً بحيازة أسلحة الدمار الشمال، ويهدد أمن المنطقة (يقصد إسرائيل)، انقلبت الآية رأساً على عقب، بعد فشل المشهد السينمائي الذي يخص أسلحة الدمار الشامل، ليتّضح في ما بعد أن مهمة القوة الغازية، كانت لنشر الديمقراطية وجلب الرخاء السياسي والاقتصادي والاجتماعي لعموم العراقيين.
لكن ترامب يمثل خنجراً حاداً في خاصرة الولايات المتحدة. بعبارة أدق: أن دونالد ترامب جرحٌ نرجسيٌّ أمريكيٌّ أغلق الستار على تلك اللغة المخاتلة، التي كان يتذرع بها الأمريكان في ما يخص اليوتوبيا، التي طالما بشروا بها: الديمقراطية الليبرالية.
سابقاً وعدتنا الاشتراكية بحقبة تاريخية ساحرة: الطور الشيوعي الأعلى، حيث يسود الرخاء والعدل والمساواة، لكن سرعان ما تبين هشاشة هذه النظرية قبل أن يتحقق الطور الأول، أعني الطور الاشتراكي، ذلك أنه اتضح في ما بعد، أن ما نراه ليس ديكتاتورية البروليتاريا، وإنما بيروقراطية الحزب الواحد كما وصفته روزا لوكسمبورغ.
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي شرّع الامريكان للاندفاع بعمق نحو ترسيخ اطروحتهم المثالية المتمثلة في يوتيوبيا سعيدة للغاية قوامها الديمقراطية والحرية. وهذا ما دفعهم لفتح الباب واسعا أمام الصين لتنخرط في النظام العالمي، ومن ثم تتحول بالتدريج إلى نظام ديمقراطي ليبرالي، بعد أن تتذوق قيمة الثراء والرخاء الاقتصادي الذي تجلبه التجارة الحرة، والانضمام إلى المؤسسات العالمية والشعور بالمسؤولية ونحو ذلك، مثلما يذكر المنظر السياسي الأمريكي جون ميرشايمر في إحدى محاضراته. لكن اتضح عقم الرهانات الحالمة، حيث ظلّت الصين وفيّة لنظامها وفلسفتها السياسية، فجاء ترامب مسرعاً ليصحح ما وقع به المثاليون!
فشنّ حربه الشعواء على الصين بلا رحمة ولا شفقة، ليبرهن للعالم أن الواقعية السياسية الأمريكية هي القاعدة والباقي استثناء، والدليل على ذلك ما أن جاء بايدن (الليبرالي)، الذي كان يشجع انخراط الصين بالمنظومة العالمية، كانت سياساته تجاه الصين أشد وقعاً من سياسيات ترامب!
وبالحقبة التاريخية نفسها التي راهن عليها الأمريكان (تسعينيات القرن المنصرم) على الصين راهنوا كذلك على ببزوغ فجر الديمقراطية الليبرالية في روسيا الضعيفة والمنهكة، حتى أن بايدن في زيارته لروسيا آنذاك ولقاءه بوتين -الرئيس الجديد في حينها- شدد في المؤتمر الصحفي على تمسك الروس بالديمقراطية وألا يدعوا أحداً يسلبها منهم. لكن، في مؤتمر ميونيخ للأمن الذي انعقد في عام 2008، أطلق بوتين تصريحات نارية شكّلت في حينها منعطفاً جديداً في العلاقات الدولية، رفض من خلاها الهيمنة الأحادية التي تنافي الديمقراطية كما زعم في حينها، وبذلك الأمر أسدل الستار عن الحلم الأمريكي، ورجعت روسيا الأخ الأوراسي الأكبر في المنطقة، وتفشل مرة أخرى اللغة الأمريكية المخاتلة التي لا تقوى على التصريح المباشر ومكاشفة جمهورها من أنها لا تشتري الديمقراطية بفلسين لو تعلق الأمر بسياستنا الخارجية.
كل ما في الأمر- نحن الأمريكيين- لا نسمح بظهور قوىً إقليمية تنافسنا على زعامة العالم، ولا نسمح بوجود شرق أوسط مستقر؛ فالديمقراطية الحقيقية تعني الازدهار السياسي، وهذا غير مقبول، ينبغي أن يموت الفسلطينيون، والليبيون، والسوريون، وأن تبقى نار الحروب الاهلية ملتهبة، أما ترامب فالرجل صريح ومباشر بما يكفي ليبدد الظلام والغموض عن السياسية الخارجية الأمريكية وفلسفتها العلاقات الدولية خاصتها ويقول للعالم: فلتذهب الديمقراطية للجحيم، الأمن والاستقرار لمن يدفع لنا أكثر: أدفع لتعيش سعيداً.