يحيى حسين
لماذا نحتاج إلى التأويل الثقافي؟ سؤال يمكن طرحه ونحن نلمس تصاعد منهجيات تحليلية، لم تكتف بالتحليل والتفسير التقليدي، فبحثت عمّا وراء النص، الظاهرة، الرمز، السلوك البشري. وبدأت أفتش عن أوليات الظواهر (ارجاع الشيء إلى أوله)، أو جذره، فهناك في الجذور تكمن معاني الاشياء وجوهرها، ويمكن عن طريق الحفر والتنقيب العميق فهم بعض ما توحي به النصوص والظواهر.
ولعل من أبرز من كتب في التأويل الثقافي، هو كليفورد جيرتز، الذي كتب مؤلفا كان بحق أهم كتاب في العصر الحديث في ما يخص التأويل والثقافة، ولا سيما في جانبها الأنثروبولوجي، الذي اتسع نشاطه في نصف القرن الحادي والعشرين، بعد التحولات الثقافية والاجتماعية والاتصالية في العالم، وانكماشه إلى قرية صغيرة بفضل تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات وازدياد المعرفة، وفرط التوسع في عالم ما بعد الحداثة، والتي أصبحت فيها الشعوب أكثر تبصرا ومعرفة بواقعها الثقافي وصارت تحاول إبراز ثقافتها بكل صورة وبأي وسيلة.
ويعتمد التأويل الثقافي على منهجية (التوصيف الكثيف)، الذي استعاره جيرتز من الفيلسوف البريطاني جيلبرت رايل (1900 ــ 1976)، الذي ينتمي إلى المدرسة الفلسفية التي تركز على تطور دراسة نظريات التفسير وفن دراسة وفهم النصوص في فقه اللغة واللاهوت والنقد الأدبي، من وجهة تأويلية. والذي ميّز جيرتز فيه بين وصف ما يظهر من فعل أو سلوك، ووصف هذا الفعل أو السلوك في السياق الذي يجري فيه(التوصيف الكثيف)، وهو ما يؤدي إلى فهم أفضل لهذا السلوك. كما في مثال حركة العين( الغمزة)، التي تأول في سياقها، هل هي حركة مرضية(اختلاجية) أو تواصلية أو ساخرة؟.
ويدخل في الحركة (الغمزة)، الرمز الذي تؤديه في سياق وظيفتها الثقافية والاجتماعية والاتصالية في مجتمع أعطى الرموز الكثير من الأهمية، لأنها طريقة مختصرة ومكثفة للتواصل، والتي تعد لغة حديثة وفاتنة بالوقت نفسه، يجيدها الكثير من أبناء المجتمع لدخوله عوالم ثقافية واتصالية، تقتضي المضي في هذا الطريق المعقد بعض الشيء.
لقد اعتمد جيرتز هذا المنهج التأويلي في دراسته وملاحظاته ومراقباته في عمله الاثنوغرافي في إندونيسيا والمغرب بشكل أساس. فالنظر في الأبعاد الرمزية للعمل الاجتماعي (سواء كان فناً أو ديناً أو عقيدة أو علماً أو قانوناً.)، يعني عدم إشاحة النظر عن الإشكالات الوجودية في الحياة لمصلحة أشكال جامدة في العلم، بل هي الغوص في لجة هذه الإشكالات لتفسيرها وتحليلها من الداخل.
وبهذا، ظهرت الأنثروبولوجيا التأويلية التي كانت غايتها قراءة النصوص والظواهر بخلفيات تأويلية وسياقية ورمزية، ورؤية تكاملية لجميع عناصر الثقافة، التي يجري تحليلها أو بالأصح تأويلها. وقد توصل جيرتز إلى رأي مفاده بأن الكائن البشري هو حيوان يصنع الرموز والمفاهيم وينشد المعاني). وحاول من خلال هذه المنهجية استكشاف الخبيئة الدفينة أو سرانيته، لإيجاد معنى للعالم وابراز تجربته فيه، وإعطاء هذه التجربة شكلا ونظاما مائزا.
ورجوعا إلى منطق السؤال في أول المقال سواء سلبا أو إيجابا يمكن الإجابة عنه في سياق الحاجة إلى التأويل الثقافي من عدمه، وكذلك المنهج المناسب للموضوع المناسب، وهو تعبير عن وجهات نظر جديدة لظواهر قديمة، ارتأت الثقافية الرمزية بعثها من جديد بأسلوب تأويلي ومكثف في سياق اتساع المهنة والحرفة الثقافية/الأنثروبولوجية في العالم. وفي ظل عجز المناهج المطروحة عن التحليل الأكمل والأشمل يمكن عندها الارتكان إلى التأويل الثقافي.