مات الشاعر.. مات المغني

ثقافة شعبية 2024/02/29
...

 رياض النعماني

 خلق العالم... الهبوب الاول للضوء كان غنائيا، صفاء ولدانة الرعوية البكر كانا يؤثثان الوجود ويعدانه، كي يكون عذوبة فجر تفتحه الاغنية على الينابيع، وبساتين الفطرة والاسرار والسريرة التي أغرقها الورد بصوت رائحته الابيض، إذ جاء الصوت الكلي: كن أغنية فكانت الأغنية.

الاغنية بدء ... صوت حمودي شربه الجميل المجروح بعذاباته وعذابات وطنه كان بدءا لا ينتهي، انه لا يكون ولا يأخذ شكله ونبرته، الا في غرين شط الحله وليل أصدقائه، ووفاء القلب عندما يكتمل كالقمر.
 الحلة الرائعة خسرت اثنين من فلذة أبنائنها الشاعر المجدد والمناضل الباسل الجميل سعد الشريفي، الذي عاش عمره منذورا لقيم الرجولة والشجاعة والنبل النادر، والفنان الرائع حمودي شربه. وخسرناهم نحن الاصدقاء. كلاهما كانا نخلة ونهرا وسماءً للجمال والرجولة والطيبة والتضحية، أعزي الحلة والعراق بفقدهما المؤلم.
حقبة سبعينيات القرن الماضي. كانت تأسيسا صميميا لأشد الحالات التباسا ووضوحا. فهي تشكل تمويها لأكثر حقائق الحياة العراقية شراسة، هذه الحياة الطالعة بدمائها الغزيرة، ومن ليل مسلخها المرعب (عام الانقلاب الفاشي سنة ١٩٦٣) وجدت نفسها ثانية وجهًا لوجه، مع قتلة عثرت فيهم الولايات المتحدة الاميركية على ما تريده من كائنات دونية، لا تترد في ارتكاب ابشع الجرائم، فاختارتهم كي ينفذوا انقلابا (سلّم واستلم) على الرئيس عبد الرحمن عارف، لأن الجو العام كان ينذر بقدوم يساريين يربضون هناك في الاهوار، ويعدون الزمن للحظة التفجر والانقضاض العظيم.
من جهة اخرى كانت شعارات (جماعة جهاز حنين) هذه تذر سياسة الانفتاح على الجميع ونسيان الماضي، وإحياء فكرة التضامن في عيون الكلام والشعارات فتصيب البعض بالرمد في تلك الحقبة كنا نلتئم بمهرجان شعري كبير بمدينة الحلة. انبثق من بيننا كالنيزك صوت الشاعر سعد الشريفي على خشبة المسرح فزلزل المكان برمته. حيث وقف - بشجاعة فريدة - ليتلو مقطعا شعريا للشهيد حسن عوينه:
(السجن لي مرجلة،
 والقيد إلي خلخال
 والمشنقه يا خلك
مرجوحة الابطال). فدوت مفاجأة هائلة، وسرى صمت عظيم في مسامات الحاضرين والمكان.. بعد أن انهى الشاعر (الانتحاري) سعد قصيدته خرج كالصرخة، كالسيل العارم دون تردد تاركا القاعة في تحولات نشوة ورهبة وأفتتان كبير، لا يتوقف كان لهب خروجه لا يزال يرج القاعة.
 قبل هذه المأثرة الشريفية بسنة كما اعتقد دعاني الشاعر عزيز السماوي إلى سهرة في بيت طلابي بمنطقة الوزيرية الشهيرة.. كان هناك شاب أنيق يدرس في معهد الدراسات النغمية اسمه (حمودي شربه)، بدأ بعد أن طاب الوقت بالدندنة الهادئة، التي تحولت بعد ذلك إلى هدير موج مندلع كأنه يدفع جدران المكان إلى ما لا نهاية، وكنت ألمح أوردة رقبته وهي تتضخم، وتحمر كأنها توشك على الانفجار.. كان جميع من في الجلسة يتأجج مع صوت حمودي ويتأثر ويتوتر، حتى صرخ أحد الحاضرين بانفعال ناري وضرب رأسه بقنينة زجاجية، فانفجر دمه نافورة لم أرَ مثلها على الاطلاق.
هذان السعد والحمودي، وهما من الحله ظلا يغنيان حياتي وحياة اصدقائهم بالبسالة والشعر والغناء حتى (رحلا).
سعد أولا وتبعه بعد اسبوع حمودي..هكذا اذن.