ممارساتٌ تعزّز الذاكرة وتخفّف آثار الخرف

بانوراما 2024/03/03
...

  آنابيل تايمست

  ترجمة: أنيس الصفار                                             

حددت دراسة جديدة اجريت على اكثر من 29 ألف مشارك من كبار السن ست ممارسات حياتية، تتراوح ما بين تناول اطعمة متنوعة والقراءة بانتظام وممارسة ألعاب الورق (الكوتشينة)، لها ارتباط بخفض محاذير الاصابة بالخرف وإبطاء عملية تدهور الذاكرة. 

أوضحت الدراسة الصينية الموسعة، التي استغرقت أكثر من عشر سنوات ونشرتها {المجلة الطبية البريطانية} في مطلع العام الماضي، أن اعتماد نظام غذائي متوازن وممارسة التمارين الذهنية والبدنية بانتظام والتواصل المنتظم مع الاخرين والامتناع عن تناول المشروبات الكحولية والتدخين هي العوامل الستة، لتحقيق نمط حياة صحي مصحوب بقدرات ذهنية ومعرفية افضل في مراحل العمر المتأخرة.

 كان الباحثون يعلمون منذ أمد طويل بوجود ارتباط بين الخرف وعوامل معينة مثل العزلة الاجتماعية والبدانة، لكن الدراسة الجديدة أضافت أدلة مهمة الى الكم الغني من الابحاث في العالم التي سبق ان اشارت الى اهمية أنماط الحياة الصحية في مساعدة الدماغ البشري على التعاطي بشكل افضل مع مراحل السن المتأخرة. فقد أضافت الدراسة ان نمط الحياة الصحي له آثار تمتد حتى الى من كانوا أكثر عرضة للإصابة بمرض تدهور الذاكرة لأسباب وراثية، وهذا الاكتشاف بشارة أمل عظيمة لملايين الاشخاص في العالم الذين يحملون الجين المعروف بالرمز “APOEε4 “، وهو عامل تهديد اساسي في الاصابة بمرض الزهايمر، كما تقول “إييف هوغرفورست” رئيسة قسم علم النفس البايولوجي في جامعة لاوبورو، وهي ليست من المشاركين في الدراسة المذكورة.

من الطبيعي ان تأخذ ذاكرة الانسان بالتردي التدريجي والتدهور مع التقدم بالعمر، لكن بعض كبار السن يمكن ان تستمر حالتهم بالتطور الى حد الخرف، وهو لفظ فضفاض يشمل ضمن معانيه مرض الزهايمر ويصف عملية تراجع الوظائف الذهنية والقدرات الادراكية عموماً الى حدود تتجاوز الاثار الطبيعية للشيخوخة. بيد ان فقدان الذاكرة قد لا يتعدى لدى كثيرين النسيان المجرد الذي يصاحب عملية التقدم بالسن، كما ورد في الدراسة المذكورة، مثل أن ينسى المرء اسم البرنامج التلفزيوني الذي يحبه، أو حصر مسألة مزعجة كان يفتش عنها. فقدان الذاكرة لا يقلل من سوئه أن يحدث بصورة تدريجية، كما أن تدهور الذاكرة المرتبط بتقدم السن يمكن في بعض الأحيان ان يكون عرضاً مبكراً للخرف. بيد ان النبأ السار هنا، كما يقول الباحثون، هو إن هذا التدهور يمكن عكس اتجاهه او جعله مستقراً عند حد معين، بدلاً من الاستمرار بالتطور إلى أن يصبح حالة مرضية. 

ست ممارسات

استغرقت دراسة “المجلة الطبية البريطانية” في الصين الفترة ما بين عامي 2009 و 2019 حيث أجرى الباحثون اختباراتهم على اكثر من 29 ألف شخص تبدأ أعمارهم من 60 عاماً فأكثر، ومن بعد ذلك استمروا يتابعون مدى تحسن حالتهم او تدهورها عبر السنين، وهو ما يعرف بـ”دراسة الأتراب على أساس السكان”. وعلى الرغم من خروج اكثر من 10500 مشارك من الدراسة خلال السنوات العشر اللاحقة (حيث توفي البعض او انقطعوا عن المشاركة لأسباب شتى) أبقى الباحثون على البيانات التي جمعوها منهم واستخدموها في تحليلاتهم البيانات. في بداية الدراسة اجرى الباحثون ما يدعى “اختبارات الذاكرة الأساسية” الى جانب اختبار الجين “APOE “، وقد تضمنت عملية المسح ايضاً العادات والممارسات اليومية للمشاركين. صنّف المشاركون في ثلاث فئات هي: صحيّة ومتوسطة وغير صحيّة، بناء على نمط الحياة الذي يمارسونه. اما انماط الحياة الستة القابلة للتعديل التي اراد الباحثون التركيز عليها فقد تضمنت: 

• التمارين البدنية: متمثلة بتخصيص 150 دقيقة اسبوعياً للتمارين الرياضية المعتدلة أو 75 دقيقة من التمارين المجهدة.

• النظام الغذائي: اعتياد المشارك تناول كميات مناسبة يومياً من سبعة أطعمة من قائمة تتضمن 12 فقرة غذائية هي (الفواكه والخضار والسمك واللحوم ومنتجات الالبان والملح والزيت والبيض والحبوب والبقول والمكسرات والشاي).

• الكحول: لم يسبق للمشارك أن تناول الكحول مطلقاً أو اقتصر تناوله على مناسبات محدودة كل حين.

• التدخين: لم يسبق للمشارك التدخين مطلقاً أو كان مدخناً ثم أقلع عن التدخين.

• النشاط الذهني والمعرفي: المشارك كان معتاداً على ممارسة التمارين الذهنية مرتين اسبوعياً على الأقل (مثل القراءة او ألعاب الورق .. وما شابه ذلك).

• التواصل الاجتماعي: المشاركون معتادون على الاندماج مع الاخرين لمرتين اسبوعياً على الأقل (من خلال حضور المجالس الاجتماعية او زيارة الاصدقاء والاقارب على سبيل المثال).

تكشف للباحثين خلال فترة الدراسة ان الاشخاص في الفئة الصحية (الذين يجمعون أربعة الى ستة من عوامل الصحة الستة)، وكذلك الفئة المتوسطة (الذين يجمعون عاملين الى ثلاثة من عوامل الصحة الستة) قد أبدوا معدلات اوطأ في جانب تدهور الذاكرة مع مرور الزمن من الاشخاص في الفئة غير الصحية (أي من يتبعون ما بين صفر وواحد من عوامل الصحة الستة). كذلك كان احتمال تطور الحالة الى تردٍّ خفيف في القدرات المعرفية، أو الخرف، أقل لدى الاشخاص الذين يتبعون انماطاً صحية في حياتهم (تتضمن اربعة على الاقل من العوامل الستة).

أنماط صحيَّة أكثر تعني ذاكرة أفضل

تظهر النتائج أن الاستزادة من هذه الانماط افضل، كما تقول هوغرفورست. بعبارة اخرى انك كلما جمعت عدداً أكبر من انماط الحياة الصحية ازدادت فرصتك في الاحتفاظ بذاكرتك ودرء الخرف. ومن الجدير بالإشارة ان هذا الكلام يصدق حتى في حالة الاشخاص الذين يحملون الجين (APOE) المقترن بارتفاع محاذير الاصابة بمرض ألزهايمر. 

كتب الباحثون في دراستهم: “رغم أن الخلل الجيني نفسه غير قابل للتعديل او التدارك فإن هذه النتائج تعطي نظرة متفائلة لأنها تؤكد ان اتباع مزيج من انماط الحياة الصحية له علاقة قوية بتباطؤ معدلات تدهور الذاكرة رغم المحذور الجيني.”

تقول “كارول براين” استاذة طب الصحة العامة في جامعة كامبردج، أن الدراسة كان لها تميزها بشكل خاص نظراً لسعة حجمها ومتابعتها المتواصلة مع مرور الوقت، وكذلك لكونها أجريت في الصين، بينما تجرى معظم الأبحاث المنشورة في الدول الغربية ذات الدخل المرتفع.

إلا أن المشتغلين بالدراسة يقرّون بوجود مقيّدات عديدة كانت لها آثارها على النتائج، من بينها أن ما يدلي به الاشخاص المشاركون أنفسهم عن سلوكياتهم الصحية قد لا يكون دقيقاً تماماً، كما أن بعضهم ربما كانوا دائبين على انماط حياة صحية من قبل الدراسة.


مقارنة مع دراسات سابقة

بعض النتائج التي توصلت اليها الدراسة جاءت مختلفة عما خرجت بها دراسات كبيرة اخرى اجريت في الولايات المتحدة وأوروبا، كما تقول هوغرفورست، مثل توصلها الى ان أبلغ عوامل الحياة الصحية أثراً في التقليل من تدهور الذاكرة هو النظام الغذائي المتوازن، في حين تشير دراسات أخرى إلى أن تأثير النظام الغذائي يكون أقل أهمية في حالة الاعمار المتقدمة من عامل التمارين البدنية والذهنية. مع ذلك تأتي نتائج هذه الدراسة متفقة مع الاجماع العلمي الأوسع على وجود علاقة وثيقة بين طريقة ممارستنا حياتنا، ومستوى أداء وظائفنا الذهنية في مراحل العمر المتقدمة. كذلك تشير الدراسة، ولعل هذا هو الأهم، ان الأوان لا يفوت أبداً على اصلاح حال صحتنا الذهنية.

يقول “سنوري رافنسون” وهو استاذ مشارك من جامعة غرب لندن متخصص بالشيخوخة والخرف: “الرسالة التي نستمدها من هذه الدراسة ايجابية بمجملها، ومفادها بأن الوظائف الذهنية والمعرفية، لاسيما وظيفة الذاكرة، يمكن التأثير عليها ايجابياً حتى في المراحل اللاحقة من العمر عن طريق المشاركة المنتظمة بالانشطة المختلفة ذات العلاقة بالصحة.” 


عن صحيفة {واشنطن بوست}الأميركية