التبعات الاجتماعيَّة السياسيَّة لهدم المساجد في الهند
أيشواريا سير وريا موغول
ترجمة: بهاء سلمان
سلط هدم مسجدين في الهند خلال أيام من بعضهما البعض الضوء على الانقسام الديني العميق داخل البلاد، قبل أشهر من توجه الناخبين إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم في انتخابات على مستوى البلاد من المتوقع أن تمنح رئيس الوزراء الهندي "ناريندرا مودي" فترة ولاية ثالثة نادرة للبقاء على رأس السلطة. وجاءت عمليتا الهدم المزدوج في ولاية أوتراخند وفي دلهي العاصمة بعد أسابيع فقط من افتتاح رئيس الوزراء مودي معبد {رام ماندير} المثير للجدل؛ وهو معبد بني على أساسات مسجد يمتد عمره إلى قرون مضت، وكانت حشود هندوسية متشددة قد هدمته في أوائل التسعينيات.
كان هذا الحفل الذي رعاه رئيس الوزراء الهندي بمثابة تحوّل زلزالي بعيد عن المبادئ التأسيسية العلمانية للهند الحديثة، وقد أشاد به القوميون الهندوس بإعتباره لحظة تتويج لحملتهم المستمرة منذ عقود لإعادة تشكيل الأمة الهندوسية.
واندلعت أعمال عنف دموية مميتة في مدينة هالدواني ضمن ولاية أوتاراخاند قبل عدة أسابيع، بعد أن قام مسؤولون حكوميون، برفقة الشرطة، بهدم مسجد ومدرسة إسلامية، بحجة "التجاوز غير القانوني". لكن المدافعين الذين يعملون نيابة عن المجتمع الإسلامي الهندي يشيرون إلى إن وثائق المحكمة، التي إطّلعت عليها وسائل الإعلام، لا تظهر إصدار هذا الأمر.
وأدت عمليات الهدم إلى خروج السكان المسلمين الغاضبين إلى الشوارع، وقتل ستة أشخاص على الأقل أثناء الاشتباكات مع الشرطة. وفرضت السلطات حظرا للتجوال في المدينة، لكن العائلات المسلمة الخائفة قالت للصحافة إنها تريد فقط مغادرة. ويشكل المسلمون نحو ثلث سكان مدينة هالدواني البالغ عددهم 220 ألف نسمة، وفقا لآخر تعداد سكاني أجري سنة 2011. وقال "بوشكار دامي"، رئيس وزراء ولاية أوتراخند، إن حكومته ستتخذ إجراءات صارمة ضد "مثيري الشغب والخارجين عن القانون". وكتب على موقع أكس، المعروف سابقا بتويتر: "يتم تحديد هوية كل مثيري الشغب المتورطين بأعمال الحرق العمد ورشق الحجارة، ولن يتم التسامح مع أي مجرم يضر بالسلام في الولاية."
تكرار الأعمال التدميرية
تأتي الاشتباكات بعد أسبوع واحد من هدم السلطات الحكومية في العاصمة دلهي مدرسة دينية أخرى ومسجدا عمره قرون، وضريحا اسلاميا صوفيا وعشرات من قبور المسلمين، وذلك أيضا بسبب "التجاوز غير القانوني" المزعوم، مما أثار الغضب والإمتعاض في العاصمة الهندية.
يقول المحللون إن هذه الحوادث تسلط الضوء على واقع غير مريح ضمن أكبر ديمقراطية في العالم، ويخشون من ان تتصاعد التوترات بين التجمعات الدينية مع إستمرار مودي وحزبه بهاراتيا جاناتا في دفع سياساتهم الشعبوية، والمثيرة للانقسام، خلال الفترة التي تسبق الانتخابات الوطنية المقرر اجراؤها في غضون بضعة أشهر فقط.
إن صورة الهند التي يريد مودي إبرازها هي صورة قوة عظمى مستندة إلى القوة الشعبوية. لكن العديد من مسلمي البلاد البالغ عددهم 230 مليونا يقولون إنهم يتعرّضون للتهميش والإقصاء في أكبر دولة ديمقراطية قائمة عالميا. ويقول المؤلف "نيلانجان موخوبادهياي": "هذا هو أسوأ وقت ممكن أن تكون فيه مسلما في الهند، وصار من من الطبيعي هدم المساجد في الهند.. إن وصم المسلمين مرتبط بقصص قديمة، ويتم النظر إليها على أنها الوضع الطبيعي الجديد؛ ولم يعد الأمر يمثل صدمة للناس."
وتأتي عمليات هدم المساجد على خلفية الاستقطاب الديني المتزايد والاتهامات بأن حزب بهاراتيا جاناتا يقوم ببناء دولة هندوسية أولا في ما يقصد به دستوريا أن تكون دولة علمانية. ويأتي ذلك في أعقاب افتتاح معبد "رام جانمابهومي ماندير" في أيوديا، وهو معبد هندوسي مثير للجدل بني على أنقاض مسجد يعود تاريخه إلى القرن السادس عشر ودمره الهندوس المتشددون قبل أكثر من ثلاثين عاما، مما أدى إلى موجة من أعمال العنف الطائفي القاتلة لم تشهدها الهند منذ تقسيمها الدموي في العام 1947.
تكريس الشعبويَّة
وترأس رئيس الوزراء مودي حفل تقديس فخم، حيث لعب دور كاهن وأشاد ببداية "الهند الإلهية الجديدة". لكن رؤيته بعيدة كل البعد عن أفكار الآباء المؤسسين للدولة الحديثة، كما يقول المحللون؛ الذين يشيرون إلى إنه خلال العقد الذي أمضاه في السلطة، نجح حزب بهاراتيا جاناتا بزعامة مودي في عزل مئات الملايين من مواطني الأقليات الكبيرة في الهند. وقد صعد مودي إلى السلطة سنة 2014، مع تعهد بإصلاح اقتصاد الهند والدخول في حقبة جديدة من التنمية، لكنه وحزبه دفعوا بقوة أيضا إلى أجندة "هندوتفا"، وهي أيديولوجية تعتقد أن الهند هي بطبيعتها أرض مخصصة للهندوس فقط.
نحو ثمانين بالمئة من سكان الهند البالغ تعدادهم أقل من مليار ونصف مليار نسمة هم من الهندوس، لكن البلاد موطن لمجموعة متنوّعة من الديانات والمعتقدات، بما في ذلك أتباع الديانتين السيخية والبوذية، وواحدة من أكبر التجمعات السكانية المسلمة في العالم والتي يبلغ عددها نحو 230 مليون نسمة. وعندما ترشّح لإعادة انتخابه في العام 2019، أصبحت سياسات مودي القائمة على فكرة "الهندوتفا" أكثر صرامة وقساوة، بحسب المحللين. فبعد بضعة أشهر من فوزه، أعلن أنه سيجرّد الإقليم الوحيد ذي الأغلبية المسلمة في الهند، جامو وكشمير، من صفة الولاية ذات الحكم الذاتي، ويحولها إلى إقليمين اتحاديين ليضعهما تحت السيطرة الفيدرالية.
وفي وقت سابق من الشهر الماضي، أصبحت ولاية أوتاراخاند التي يحكمها حزب بهاراتيا جاناتا أول ولاية في الهند المستقلة تمرر "القانون المدني الموحد"، وهو عبارة عن مجموعة من القوانين العامة المثيرة للجدل التي انتقدتها بعض الأقليات لمحاولتها استبدال قوانينها الدينية للأحوال الشخصية. في الهند، وهي دولة ذات معتقدات متنوّعة، تتّبع الجماعات الدينية قوانينها الخاصة بالأحوال الشخصية في أمور مثل الزواج والطلاق والميراث. لكن البعض اعتبرها منذ فترة طويلة رجعية، بما في ذلك العديد من الشخصيات العلمانية.
تغيير الشرائع
وينظر البعض إلى محاولة حزب بهاراتيا جاناتا إصلاح هذه القوانين الدينية على أنها خطوة مرحب بها، لكن المنتقدين يخشون من أن السياسات القومية الهندوسية التي تنتهجها الحكومة بامكانها التأثير على نحو غير مبرر على التشريع. وانتقد أسد الدين عويسي، النائب المسلم المعارض، القانون، قائلا إنه يجبر المسلمين على اتّباع دين مختلف، ويضيف: "لدي الحق في ممارسة ديني وثقافتي، وهذا القانون يجبرني على إتّباع دين وثقافة مختلفة. في ديننا، يعد الميراث والزواج جزءا من الممارسة الدينية."
خلال الأسابيع الماضية، ذكر تقرير صادر عن منظمة العفو الدولية أنه في الفترة ما بين شهري نيسان وحزيران 2022، قامت السلطات الحكومية بتجريف ما مجموعه 128 عقارا مملوكة في غالبيتها للمسلمين في خمس ولايات. يقول التقرير: "أثّرت عمليات الهدم سلبا على ما لا يقل عن 617 شخصا، من بينهم رجال ونساء وأطفال، ما جعلهم بلا مأوى أو محرومين من مصدر رزقهم الوحيد."
ويضيف المؤلف موخوبادهياي: "إنها حملة معادية للإسلام بشكل مطلق تشمل كل مجالات الحياة."
لا يزال هناك شعور باليأس بين العديد من المسلمين في منطقة مهرولي في دلهي، حيث قامت السلطات الحكومية بتسوية مسجد أخوندجي الذي يعود تاريخه إلى 600 عام بالأرض في أواخر الشهر الماضي، بحجة "التجاوز غير القانوني". بيد أن محمد ذاكر حسين، إمام المسجد البالغ من العمر أربعين عاما، يقول إن عائدية المبنى كانت لمجلس الأوقاف في المدينة، وهي هيئة قانونية أنشئت لحماية الشؤون الإسلامية، وما كان ينبغي تدميره أبدا. وأفصح عن شعوره بـ"العجز"، عندما ناشد السلطات التوقف عن هدم المبنى وتسويته بالأرض.
خلط الحقائق
وقال محامي هيئة تطوير العاصمة، "سانجاي كاتيال"، لمحكمة دلهي العليا إن الهيئة اشترت الأرض لإجراء تطوير مخطط له سابقا. ومن المتوقع أن يتم الاستماع إلى القضية مرة أخرى في وقت لاحق من هذا الشهر. وقد شهدت دلهي، المدينة التي يبلغ عدد سكانها أكثر من عشرين مليون نسمة، توسعا حضريا سريعا على مدى العقود القليلة الماضية، تحت ظل نظام مترو حديث واسع النطاق، وطبقة متوسطة مزدهرة أصبحت ترمز إلى النمو الاقتصادي في الهند.
لكن بين طرقاتها المتعرّجة تقف آثار عمرها قرون، وآثار من القرون الوسطى تضع العاصمة الهندية على قدم المساواة مع المدن القديمة الكبرى في العالم، كما يقول المؤرخون. وتقول المؤرخة "رنا صفوي" إن الهندسة المعمارية لمسجد أخوندجي كانت نموذجية لعصر السلطنة الذي أزدهر في الهند بين العامين 1192 و1526؛ وظل سقفه المقوس وأعمدته المصنوعة من الحجر الرمادي قائما لنحو 600 عام، قبل أن يتم تدميره وتسويته بالأرض، وتضيف: "إن الأمر يشبه محو جزء من التاريخ الهندي.. إنها خسارة مسجد كمكان آمن للتجمّع للصلاة، خاصة عندما تكون الصلاة في الهواء الطلق أو الأماكن العامة ممارسة مرفوضة."
وإلى جانب المسجد، هدّمت السلطات أيضا المدرسة الإسلامية التي كانت تؤوي عشرات الأطفال، من بينهم أيتام، كما تم تدمير مقبرة قديمة كانت قائمة بجانبها. وقال محمد عارف، 22 عاما، الذي كانت قبور والده وجدته وجده من بين تلك القبور المدمرة، إنه يصل إلى الموقع في كل يوم لمحاولة ترميم ما تبقى منها. " أحْضر إلى هنا كل يوم لأطلب من الحراس السماح لي بالدخول وترميم قبورهم بطلائها بمادة الطين على الأقل، إلا إنهم لا يسمحون بذلك."
وأعرب محمد أمان، 32 عاما، عن حزنه بشأن الانقسام العميق بين الهندوس والمسلمين، ويقول: " تبرّر الحكومة كل شيء بإلقاء اللوم على أباطرة المغول،" في إشارة إلى حكام الهند المسلمين القدماء؛ ويضيف: "لكنها تفعل الشيء نفسه الآن.. ما الفرق بينكم وبينهم إذن؟"
شبكة سي أن أن الاخبارية الأميركية