ياسين العطواني
تـُشكل الدراسات العليا رافداً مهماً من روافد المعرفة التخصصية، وقد تُسهم بشكل واضح من خلال ما تقدمته من بحوث علمية، إذا كانت تتسم بالرصانة، في إثراء المعرفة بجميع فروعها، عن طريق الدراسات المتخصصة، والبحث الجاد، للوصول إلى إضافات علمية وتطبيقية مبتكرة، والكشف عن حقائق جديدة، من خلال إعداد الكفاءات العلمية والمهنية، وتأهيلهم تأهيلاً عالياً في مجالات المعرفة المختلفة.
وتعتبر المؤسسات الأكاديمية هي المراكز الرئيسية لهذا النشاط العلمي الحيوي، بما لها من وظيفة أساسية في تشجيع البحث العلمي وتنشيطه، وإثارة الحوافز العلمية لدى الطالب والدارس، حتى يتمكن من القيام بهذه المهمة على أكمل وجه.
لذلك تعد المؤسسات البحثية اليوم من أهم ركائز العمل في الدول المتقدمة، حيث إنها تمثل القناة الرئيسة التي تمكّن صاحب القرار من التعرّف على الواقع والتخطيط للمستقبل، وفق أساس علمي سليم، يأخذ في الاعتبار كل معطيات الواقع، ومؤشرات المستقبل ذات الصلة بموضوع ومضمون القرار.
هذا هو الإطار العام لمفهوم الدراسات العليا المعتمد اليوم في أعرق الأكاديميات والمعاهد المعتبرة في العالم، وإذا أخذنا هذه المعطيات العلمية بنظر الاعتبار مقارنتةً بما هو متاح من رسائل علمية يتم الإعداد لها في جامعات ومعاهد البلاد المختلفة أو تلك التي يتم جلبها من خارج البلاد، من جامعات تفتقر إلى الرصانة العلمية، فلا نعتقد هناك أوجهًا للمقارنة، وهذا الأمر لم يقتصر على المرحلة التي أعقبت عملية التغيير، وما تلاها من إرهاصات، بل الأمر يتعدى إلى أبعد من ذلك، ولا سيما خلال العقود الأخيرة من حكم النظام السابق.
عندما كانت موضوعات وعناوين رسائل الماجستير واطروحات الدكتوراه تتراوح بين فكر (القائد) ووصاياه، ونظرية العمل (البعثي)، والتي على أثرها بدأ العد التنازلي لتدهور واقع الدراسات العليا في عموم جامعات ومعاهد البلاد. لذا يتوجب على الجهات المعنية برسم السياسة التعليمية في البلاد، ولا سيما الدراسات العليا منها، تجنب إخفاقات المرحلة السابقة بكل تداعياتها، وألا يتكرر ما كنا ننتقده باستمرار تحت أطر وعناوين جديدة. فما تحتويه رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه بين طياتها من مواد وعناوين، والمركونة اليوم على رفوف المكتبات، لا نعتقد أنها ترتقي إلى مرحلة الدراسات العليا، والتي هي بمثابة العمود الفقري في منظومة التعليم الجامعي، باعتبارها الحقل الرئيس المعني بتوفير الموارد البشرية المؤهلة تأهيلاً عالياً، التي تتطلبها قطاعات التنمية، إضافة إلى مساهمتها بتوجيه الرسائل العلمية لحل مشكلات المجتمع ومعالجة قضاياه.
ما نود التأكيد عليه، هو ألا ننظر إلى ترتيب الأولويات من خلال الظروف الآنية، التي تحيط بنا، فنجعل من الأمر الضروري كمالي وبالعكس، فالكثير من التوصيفات الكماليات في نظر البعض هي بطبيعتها ضرورات حتمية. وهذا الحال ينطبق تماما ً على دور وأهمية الدراسات العليا، وعموم مراكز البحوث العلمية. وبلا شك فإن النهوض بهذا القطاع المعرفي يتطلب إعادة نظر وتقييما دقيقا بطبيعة ما يقدم من دراسات، كما أنها بحاجة لأن تكون أكثر انفتاحا على العالم وعلى قضايا المجتمع، وتعمل على استقطاب أفضل العقول البشرية لمواجهة متطلبات التطوير وتحديات العصر الذي نعيشه، بحاجة ايضاً لتبني آليات عمل أكثر مرونة وتفاعلاً مع مشكلاتنا وقضايانا. وفي ضوء هذه المعطيات فإننا بحاجة إلى وضع ستراتيجية يكون فيها للدراسات العليا الدور الفاعل في تحديد المشكلات والمواضيع التي تحتاج لاتخاذ القرارات، بجانب صياغة لوائح وقوانين مشتركة تحكم الأداء وتحدد المعايير الكلية للبحوث والدراسات المختلفة، إضافة إلى بناء وإدارة قاعدة بيانات موحدة لكل إنتاج البحث العلمي في البلاد، ومن ثم ضرورة الاستفادة من هذه المراكز وربطها بالتخطيط الاستراتيجي للدولة في حل مشكلات المجتمع المختلفة، واللحاق بركاب الدول المتقدمة.