الاحلام الإلهيَّة في بلاد الرافدين

بانوراما 2024/03/05
...

 إيلانا هيرزيغ، وو منغرين

 ترجمة: مي اسماعيل

كان سكان بلاد الرافدين القدماء يؤمنون أنهم اذا اتبعوا مجموعة مناسبة من التعليمات فسيحلمون (أثناء النوم) أحلاما تتضمن الاتصال بالآلهة. درست عالمة الآشوريات {آينو هاتينين} من جامعة لودفيغ ماكسيميليان بميونيخ عددا من الرقيمات المسمارية، التي حوت على إرشادات لاستحضار هذا النوع من الأحلام. تعود أولى تلك الرقيمات الى نحو 1100-  800 عام ق. م.، كما جرت الإشارة إلى تلك التوجيهات في رقيمات اخرى يعود تاريخها إلى أواخر القرن الأول ق. م.

يكتبها غالبا المستشارون الملكيون والعلماء والكتبة؛ الذين يعتبرون خبراء في أدب النذور والنبوءات. اكتُشِفت تلك الرقيمات في كل من نينوى وآشور وأوروك وسبّار وبابل؛ وجميعها مدن في العراق الحديث. 

وجدت هاتينين أن النصوص تقدم نصائح لاستحضار الحلم تختلف تبعا لمرور الأشهر القمرية الاثنتي عشر من السنة؛ كما تشرح قائلة: "تدور التعليمات عادة حول وجبات الطعام؛ ما الذي يجب ان يؤكل، والملابس التي يجب ارتداءها. وهناك ايضا توجيهات حول المزاج العام للشخص، وموقع النوم واحتمالية ممارسة الجنس ام لا". 

قدم أحد النصوص القديمة هذه النصيحة: "على المرء أن يغطي نفسه (بالتراب)، ويدهن جسمه بالزيت.. عليه أن يبقى صامتاً كئيباً.. وعليه أن ينام في ممر". كان من شأن تطبيق هذا النوع من التوجيهات (كما يدّعي كاتبها) أن يستحضر رؤى ميمونة تُمكّن الناس من التواصل مع مجموعة من الآلهة؛ سواء كانت الآلهة الشخصية، أو آلهة خبيثة، أو آلهة العالم السفلي. 

وكان يمكن للناس أيضا تصميم سلوكهم لكسب مقابلة الآلهة التي يختارونها؛ كما تقول هاتينين: "هناك  تعليمات بالنوم على السطح تسمح لك بالتواصل مع آلهة الليل.. ليس عليك الذهاب إلى المذبح في الحرم؛ بل يمكنك الحصول على هذا الاتصال المباشر بمجرد النظر إلى السماء". 


تنبؤات وتفسيرات 

تعني كلمة "Oneiromancy" شكل من أشكال العِرافة يجري من خلاله تفسير الأحلام للتنبؤ بالمستقبل. جرت ممارسة هذا النوع من العِرافة في أنحاء كثيرة من العالم؛ بما فيها الحضارات القديمة التي كانت قامت بمنطقة بلاد ما بين النهرين؛ وما زال موجودا حتى اليوم. يمكن ايجاد تفسيرات الاحلام في بلاد ما بين النهرين القديمة في أدبها؛ مثل ملحمة كلكامش الشهيرة و"أتراحاسس-Atrahasis" (= عنوان ملحمة من القرن الثامن عشر ق. م. بعدّة روايات على ألواح الطين. سُمّيت باسم بطلها، أتراحاسس. تروي أسطورة خلق وقصة طوفان. المترجمة، عن موسوعة  ويكبيديا). 

كما يبدو ان تفسير الاحلام كان امرا شائع الممارسة في الحياة الواقعية، كما يتضح من خلاصة النصوص المعروفة باسم "إسكار زاقيق-Iškar Zaqīqu " (تُرجمت على أنها "النص الأساسي للإله زاقيق")؛ أو ما يُعرف عموما بإسم "كتاب الحلم الآشوري".  


أتراحاسس يتلقى نبوءة الليل

جرى تصوير الاحلام في ادبيات بلاد النهرين القديمة بأنها تؤدي الكثير من الوظائف؛ الأكثر شيوعا من بينها قد يكون استخدام الأحلام كوسيلة للتنبؤ بالهلاك الوشيك. في ملحمة أتراحاسس، وهي نسخة وادي الرافدين من رواية الطوفان؛ تتلقى الشخصية الأساسية: أتراحاسس (ويعني اسمه: شديد الحكمة) تحذيرا في الحلم عن الطوفان المُدمّر. في هذه الرواية يبدو ان أحلام أتراحاسس كانت مُرسلة من الآلهة. وفي أحد أجزاء نصوصها يبدو أتراحاسس وهو يُقدم هدية الى الاله "أيا- Ea" لأجل أن يتمكن من الحصول على حلم من الإله.. يقول النص: " عسى أن تأخذها مياه الري، عسى أن يحملها النهر، عسى أن توضع الهدية أمام الاله "أيا"، عسى ان يراها الاله ويُفكّر بي! وعسى أن أرى حلما في الليل". 


انكيدو وديموزي

ظهرت الأحلام بوصفها تحذيرا من هلاك وشيك في مواقع أخرى من الادب القديم لوادي الرافدين؛ وأهمها- ملحمة كلكامش. يرى أنكيدو (صديق كلكامش) حلما ان الآلهة قررت موته عقابا لتورطه في قتل ثور السماء والوحش "هواوا- Huwawa" (الذي صار اسمه لاحقا- خمبابا. المترجمة). كذلك رأى أنكيدو أحلاما جرى فيها القبض عليه وسوقه الى العالم السفلي.. بعد تلك الأحلام سقط انكيدو مريضا ثم مات.. جاء في النص الأدبي: "منذ اليوم الذي رأى فيه الحلم انتهت قوته. رقد أنكيدو هناك في الأول، ثم (يوما ثانيا). تمكن (المرض) من أنكيدو وهو راقدٌ في الفراش، (وساءت حالته وضعف جسمه)".   

كان النص المعروف بإسم  "أحلام "ديموزي- Dumuzid"" من النصوص الاخرى التي حملت رسائل مشؤومة من أدبيات وادي الرافدين. في ذلك الحلم رأى الملك الاسطوري (الذي عاش قبل حقبة الطوفان) مصرعه. وعلى خلاف أنكيدو كان حلم ديموزي حافلا بالاستعارات المجازية؛ مما حدا بالملك لدعوة اخته "غشتين انا- Ĝeštin-ana" للمساعدة في تفسيره. 


أهمية تفسير الاحلام في وادي الرافدين

يمكن القول إن الناس في بلاد الرافدين القديمة (بعيدا عن نطاق الأدب) كانوا يأخذون أحلامهم على محمل الجد؛ وهذا يمكن رؤيته من وجود مُفسرين مُحترفين للأحلام. وأحد أشهر مجموعات تفسيرات الأحلام في بلاد ما بين النهرين القديمة هو ما يسمى بــ "كتاب الأحلام الآشوري".  

ويضم مجموعة من الألواح الطينية المكتشفة في مكتبة الملك الآشوري "آشور بانيبال" بنينوى. يقال إن نقوش تلك الألواح سجلّ لكيفية تفسير الأحلام؛ وعلى سبيل المثال، يُقال ان تفسير الحلم الذي يهرب فيه الشخص مرارا وتكرارا هو أنه سوف يفقد كل 

ما يملك!


مجلة {آركيولوجي} (كانون الثاني- شباط 2024)، مجلة "الاصول القديمة