ليلى ميلر
ترجمة: بهاء سلمان
في منطقة {أوشوايا} الواقعة أقصى جنوب الأرجنتين، يوجد سجن قديم يطلق البعض عليه إسم {ألكاتراز الأرجنتيني}، حيث ساعد نزلاؤه ببناء ما تعرف الآن مدينة "نهاية العالم". فقد أرسل السجناء إليها مطلع القرن العشرين ليسكنوا الطرف الجنوبي للبلاد، وقاموا بتعبيد الطرق وتدفئة المنازل بالأخشاب التي نقلوها بالقطار من الغابات القريبة.
كان مناخ أوشوايا القارس وموقعها البعيد يعني أنه إذا تمكن النزلاء من الفرار من السجن، فلن يذهبوا بعيدا.
تقع أوشوايا على ضفة قناة بيغل مع الجبال المغطاة بالثلوج خلفها، وتطوّرت لتصبح مدينة ساحلية كبيرة يبلغ عدد سكانها ثمانين ألف نسمة ومركزا للسياحة البيئية، كما تغادرها السفن بانتظام إلى القارة القطبية الجنوبية. وتم تحويل السجن إلى متحف ومكان جذب "للسياحة المظلمة"؛ مثل تشيرنوبيل، وهو بمثابة تذكير بأن أوشوايا تدين بوجودها إلى حد كبير إلى جهود النزلاء.
وتروّج متاجر الهدايا لعدد لا نهاية له من الهدايا التذكارية التي تحمل طابع السجن، من بينها ملابس الأطفال وقفازات الفرن ذات التصميم المميز لزي السجن، بخطوط أفقية صفراء وزرقاء. ويحاكي قطار نهاية العالم الذي يجتاز متنزه تييرا ديل فويغو رحلة الغابة التي يقوم بها السجناء يوميا، ويدعو الركاب إلى تجربة "سحر عصرانقضى".
يقول "ريان إدواردز"، مؤلف كتاب "إيكولوجيا السرطان"، الذي يتفحّص سجن أوشوايا وتراثه، إنه لا ينبغي للناس أن ينسوا ماضي أوشوايا؛ ويضيف: "من الغريب للغاية أن تركب القطار، وتسمع القصص، وتشعر بالحزن حيال ذلك، ثم تشعر بالسعادة عندما تتجول في الجبال."
تاريخٌ وذكريات
لكن تاريخ أوشوايا كمدينة وسجن يطرح سؤالا صعبا. يقول إدواردز: "أحدهما بسبب الآخر، وهل نحن موافقون على ذلك؟" عندما أنشأت الأرجنتين مقاطعة فرعية في تييرا ديل فويغو سنة 1884بعد معاهدة مع تشيلي قسمت الأراضي بين البلدين، كانت المنطقة مأهولة بالسكان الأصليين والمبشرين الإنكليز. رأى المسؤولون الأرجنتينيون، بمن فيهم الرئيس "خوليو روكا"، أن السجن يمثل وسيلة للحصول على مصدر موثوق للموارد البشرية وإشغال المنطقة للدفاع عنها ضد تشيلي. وأشاروا إلى المستعمرات العقابية حول العالم، بضمنها المستوطنة البريطانية في أستراليا، كنماذج.
وفقا لإدواردز، تطوّعت مجموعة من السجناء الذين وعدوا بعقوبات مخففة بالانتقال إلى أوشوايا لبناء سجن للمدنيين. في عام 1902، تم وضع حجر الأساس على مرأى من شواطئ قناة بيغل. واستوحي تصميم السجن، المكوّن من خمس زنازين طويلة تلتقي حول دائرة، من السجن الشرقي الشهير لولاية فيلادلفيا. وإعتقد بعض المؤيدين أن العمل البدني وطبيعة باتاغونيا ومناخها البارد يمكن أن تساعد في إعادة تأهيل السجناء. يقول إدواردز: "هناك اعتقاد بأن المناطق الباردة والمتجمّدة ستخفف واقعا من العادات الإجرامية."واتّسع السجن ليصل إلى 380 زنزانة، وكان يؤوي أكثر من 500 سجين في وقت واحد، وكان يعاني من الاكتظاظ. وكان السجن يحتوي على مخبز وورشة للصيانة ومحل خياطة وصحيفة ومعمل نجارة، وكان السجناء يتولون مشاريع البناء في المدينة. كما كان السجن مسؤولا عن تشغيل محطة لتوليد الكهرباء للبلدة، التي كانت تشهد انقطاعات للتيار الكهربائي عندما تضطر إدارة السجن لقطع الكهرباء أثناء النزاعات مع المسؤولين المحليين.
وتقول "سيلفانا مابيل سيكاريللي"، مؤرخة أرجنتينية ألّفت عدة كتب عن السجن: "أصبحت المدينة معتمدة تماما على السجن، فإذا احتاج السكان لسرير طفل، كان عليهم شراؤه من السجناء." وكان السجن يضم مجرمين مشهورين، بضمنهم القاتل المتسلسل "كايتانو سانتوس غودينو"، الذي اتّهم عندما كان مراهقا بخنق الأطفال. ومع دراسة السمات البيولوجية كمؤشرات للسلوك الإجرامي، أصبح غودينو معروفا لدى الجمهور بأذنيه الكبيرتين، وأطلق عليه لقب "الرجل القصير ذو الأذنين الكبيرتين".
وكانت قضية "سيمون رادويتسكي"، الفوضوي الذي تم نقله إلى أوشوايا سنة 1911 بعد اغتيال رئيس شرطة بوينس آيرس إثر الاشتباكات العنيفة بين الشرطة ومتظاهري الحركة العمالية، سببا لتسليط الضوء على السجن، وعززت المطالبات بإغلاقه. وكتب صحفيو بوينس آيرس الذين زاروا المكان عن المرض ونقص التدفئة. أحد المراسلين أجرى مقابلات سرية مع السجناء العاملين خارج السجن، ووصف أوشوايا بأنها "الأرض الملعونة، والوصمة على جبين الجمهورية".
قرارٌ رئاسي
تقول سيكاريللي: "كان الأمر أشبه بتركهم منسيين، واكتسبت المنطقة سمعة باعتبارها مكانا للعقاب؛ ولذا سميت "سيبيريا كريولا"، أي سيبيريا الأرجنتينية." ومع تزايد عدد السجناء وموظفي السجون، ارتفع عدد سكان تييرا ديل فويغو من 477 سنة 1895 إلى 2504 بحلول العام 1914.
تكيّفت عائلات أوشوايا مع البيئة، حيث قامت بتدفئة أسرّتها بالآجر الساخن، وأمضت أوقات فراغها بالتزلج على جليد الشوارع، وتسلّق نهر جليدي قريب والرحلات وسط الغابة. وصلت الأخبار من بوينس آيرس وبقية العالم عبر الراديو، كما وصلت المواد الغذائية المعلّبة والإمدادات على متن سفن الشحن إلى الميناء.
بحلول العام 1947، أعلن الرئيس"خوان بيرون" إغلاق السجن ضمن الإصلاحات الوطنية. أما أوشوايا، فقد ظلت تنمو بشكل مطّرد حتى من دون سجنها. وخلال السبعينيات، ازدهرت السياحة إلى القارة القطبية الجنوبية، التي تستغرق رحلة بالقارب لمدة يومين؛ كما ساعدت الإعفاءات الضريبية الممنوحة لمنطقة تييرا ديل فويغو بجذب الناس إلى المقاطعة وتطوير مركز تصنيع جميع الهواتف المحمولة وأجهزة التلفزيون تقريبا في الأرجنتين.
حاليا، تعد السياحة أحد شرايين الحياة في المدينة، فخلال الصيف، يتجمع الزائرون في الشوارع الضيّقة وسط المدينة للإشتراك برحلات استكشافية لرؤية طيور البطريق وزيارة القارة القطبية الجنوبية، فيما تبيع متاجر الهدايا التذكارية أكوابا وقمصانا مكتوب عليها "نهاية العالم".
قبل الصعود إلى قطار "نهاية العالم"، يلتقط الركاب صورا بجوار موظفين يرتدون خطوطا أفقية يتقمصون شخصية السجناء. ويروي التسجيل قصة السجن بلغات متعددة، بينما يمر القطار بجوار نهر وأودية متلألئة. لقد حقق المشروع نجاحا ملحوظا، فقد حمل القطار خلال العام الماضي 259 ألف راكب، مقارنة مع 100 ألف راكب تقريبا سنة 2013. وقبلها بعقد من الزمن، كان يحمل 60 ألف راكب.
صحيفة لوس انجليس تايمز الاميركية