ثامر عباس
قلما نصادف مطبوع يتحدث فيه صاحبه عن أحوال وأهوال المجتمع العراقي، يخلو متنه من الإشارة – بهذا القدر أو ذاك - إلى أحداث ماضي هذا المجتمع ويتطرق إلى وقائع تاريخه القديم، ليس لأن كاتب المطبوع يدرك أهمية هذه الإشارة ويقيّم ضرورة تلك الالتفاتة، بقدر ما يراعي الحالة الذهنية والسيكولوجية المضطربة التي يبدو عليها الإنسان العراقي وهو يقارع ظروف ويصارع أوضاع واقعه الاجتماعي المرير. بحيث إنه لا يتردد في الرهان على ما قد يجنيه من مكاسب (مادية ومعنوية) في حال كونه استطاع تحيين واستثمار تلك الأحداث والوقائع، طالما يلمس أنها لا تزال فعالة على صعيد الوعي وشغالة على صعيد العلاقات.
ولهذا ترى أن الغالبية العظمى من العراقيين لم يبرحوا مأخوذين بهول الصدمات المتتالية والانهيارات المستمرة، التي لم تفتأ تنهال فوق رؤوسهم، كما اللعنات التي لا فكاك عنها ولا خلاص منها، حتى أإن السؤال الذي يخامرهم عما جرى لهم في الماضي ويجري عليهم في الحاضر والمرجح انه سيداهمهم في المستقبل، بات لازمة لا تفارق شفاههم ولا يغادر وعيهم، بحيث لم يعد يخلو حديث من أحاديثهم عنه وفيه وحوله. إذ طالما قرأوا في كتب التاريخ والحضارة والدين التي تهيأت لهم فرص دراستها عبر مختلف مراحل الدراسة وأنماط التلقين التربوي، فضلا عن أدبيات الأحزاب السياسية التي انخرطوا في صفوفها لاحقا ، ناهيك بالطبع عن سيل الخطابات الإيديولوجية التي تبثها وسائل الإعلام الخاصة بالدولة/ السلطة المسماة (وطنية)؛ إن العراق كان في يوم ما مهدا للحضارة العالمية وبوابة للتاريخ الكوني، وباكورة للوعي البشري؟!. أفلم يتناهَ إلى أسماعهم - منذ نعومة أظفارهم حتى بلغوا من العمر عتيا - إن الأبجدية الإنسانية كانت قد اخترعت فوق ترابه، ولم تنبثق الأديان السماوية إلاّ من بين جنباته، ولم تشرّع القوانين الوضعية إلاّ وسط رحابه؟!.
والحال، ربما يخطر على بال العراقيين تساؤل مفاده؛ لماذا بعد كل هذا المزايا التاريخية والمناقب الحضارية آلت بنا الحال إلى هذا الدرك المزري والمآل المفجع من الانقسامات الاجتماعية، والصراعات المذهبية، والتهتكات الأخلاقية ؟!. ورغم أن مثل هذا التساؤل المشروع واردة، بلّه متوقع، من لدن جلّ العراقيين المأخوذين بهول الصدمات والمفاجآت، إلّا أن أحدا منهم لم يذهب بعيدا في البحث عن مكمن الإجابات الحقيقية، التي يمكنها أن تطفي ظمأ حيرتهم وتشفي غليل قلقهم. ولأجل ذلك نقول؛ إن على كل من يريد ويسعى – حقا وصدقا - للعثور على بغيته من الإجابات الواقعية لأسئلته الحائرة وتوقعاته القلقة ولواعجه الممضّة، الشروع بتوجيه دفة بحثه وتنقيبه – بتجرد ودون مسبقات طوباوية ومسلمات وقناعات زائفة - صوب مواريث (الماضي) القارة في قيعان متخيله الجمعي المحاط بأسيجة من الممنوعات والمحرمات، والتي طالما تغنى بمفاخرها المختلقة في كل حين، ورقص على أمجادها الملفقة في كل مناسبة، بحيث ستشيح تلك المواريث عن أحداث يندى لها الجبين لوضاعتها ووقائع تقشعر لها الأبدان لفظاعتها!.
ولهذا علينا أن نقرّ ونعترف بحقائق؛ إن إقليمنا (الجغرافي) ليس سوى سلسلة من الصراعات بين المراكز والهوامش، وأن موروثنا (التاريخي) ليس سوى سلسلة من الحروب والمذابح بين الأقوام والأعراق، وأن اعتقادنا (الديني) ليس سوى سلسلة من الكراهيات والاستقطابات بين الطوائف والمذاهب، وأن تكويننا (الاجتماعي) ليس سوى سلسلة من عمليات الكرّ والفر بين أهل الوبر وأهل المدر، وأن رصيدنا (الحضاري) ليس سوى سلسلة من التهميش والاحتواء بين الثقافات الجماعات
والأقليات!.