أميركا ارتكبت الخطأ ذاته أربع مرات
بانوراما
2019/05/27
+A
-A
باتريك كوكبرن
ترجمة: انيس الصفار
من خلال تصعيدها الموقف مع إيران سوف تقع الولايات المتحدة في الخطأ نفسه الذي وقعت فيه مرة تلو مرة منذ سقوط الشاه قبل 40 عاماً: وهو تجاهلها لخطر التدخل في نزاع جله ديني الطابع ما بين المسلمين السنة والشيعة.
لقد قضيت الشطر الاكبر من حياتي المهنية مراسلاً في منطقة الشرق الاوسط، وبالتحديد منذ الثورة الايرانية مطلع العام 1979. خلالها كتبت التقارير تلو التقارير عن ازمات وحروب كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها خلالها يرتكبون الاخطاء القاتلة لعدم فهم البواعث الدينية لدى خصومهم. مجمل قولي أنهم بعد ذلك كله خرجوا خاسرين، أو انهم قد فشلوا في تحقيق النجاح، عبر صراعات كان ميزان القوى يبدو فيها لصالحهم الى حد بعيد.
حدث ذلك أربع مرات على الأقل، كانت الأولى في لبنان عقب الغزو الاسرائيلي أواسط العام 1982، وكانت اللحظة الحاسمة حينذاك هي تفجير مقر جنود المارينز الاميركيين وسط بيروت خريف العام التالي الذي قتل جراءه 241 جندياً أميركياً. بعد ذلك تكرر الخطأ مع حرب السنوات الثمان بين العراق وإيران، من 1980 الى 1988، حين وقف الغرب ودول المنطقة (السنية) الى جانب صدام، بيد أن تلك الحرب انتهت الى وضع اللاغالب ولا مغلوب. بعد العام 2003 انتهت المحاولة الاميركية البريطانية المشتركة لتحويل عراق ما بعد صدام الى معقل معاد لإيران الى التخبط وفشلت فشلاً مريعاً. ذات الشيء عاد فتكرر بعد العام 2011 عندما حاول الغرب ودول مثل السعودية وقطر وتركيا عبثاً التخلص من بشار الاسد وحكمه لسوريا، وهي الدولة العربية الوحيدة التي وقفت بثبات الى جانب إيران.
تكرار الخطأ
اليوم عادت العملية تأخذ مجراها من جديد، ومن المتوقع أن تمنى بالفشل الذريع ايضاً للاسباب القديمة ذاتها: وهي أن الولايات المتحدة وحلفاءها في المنطقة لن يواجهوا إيران المعزولة المنفردة بل معها كل الشرائح الشيعية ضمن دول مختلفة يقع معظمها عند الجزء الشمالي من الشرق الاوسط ما بين افغانستان والبحر المتوسط.
يتطلع “دونالد ترامب” الى فرض عقوبات خانقة على إيران، بينما يروج مستشاره للأمن القومي “جون بولتون” ووزير خارجيته “مايك بومبيو” للحرب كخيار مفضل. غير أن الثلاثة جميعاً ينعتون حزب الله اللبناني ووحدات الحشد الشعبي في العراق بأنهم وكلاء تابعون لإيران، رغم أن المكون الاساس للتنظيمين، سياسياً وعسكرياً، هم الشيعة المحليون الذين يشكلون أغلبية نسبية لدى لبنان واغلبية كبرى للعراق وأقلية متحكمة بالنسبة لسوريا. ربما كانت لإيران قدرة التأثير على تلك الجماعات، ولكنها ليست دمى إيرانية سرعان ما تتبدد وتختفي بمجرد قطع الدعم عنها.
الولاء للدولة القومية بالنسبة للشرق الاوسط اضعف عموماً من الولاء للشرائح المعرفة على اسس دينية، مثل العلويين، وهي الفئة الشيعية الحاكمة في سوريا ويقارب تعدادها مليوني نسمة، وإليها ينتمي الرئيس بشار الاسد وأوثق معاونيه. إنهم يقاتلون ويبذلون حياتهم دفاعاً عن هويتهم الدينية، ولكن ليس بالضرورة عن جنسيتهم المطبوعة على جوازات سفرهم.
عندما تمكنت طائفة “داعش”، المتقمصة زي الاسلام العسكري، من تجاوز الجيش العراقي والاستيلاء على مدينة الموصل منتصف العام 2014 صدرت فتوى آية الله العظمى علي السيستاني، وهو من قادة الشيعة، فحركت عشرات الالوف من المتطوعين الذين انطلقوا يتسابقون للدفاع عن بغداد. وجاءت مرحلة سابقة من هذه المعركة، في حمص ودمشق السوريتين، كانت المناطق اللاسنية هي نقاط الارتكاز القوية التي اعتمد عليها النظام.
فعلى سبيل المثال حاولت المعارضة جاهدة انتزاع طريق المطار قرب العاصمة نظراً لأهميته الستراتيجية, ولكن الجماعات المقاتلة من الدروز والمسيحيين هي التي صدت مسلحي المعارضة عنه وتمكنت من الحفاظ عليه.
صواريخ اليمن
هذا ليس ما يريده حلفاء ترامب، المتمثلون بالسعودية والامارات واسرائيل، من واشنطن ان تفهمه، فالشيعة بالنسبة لهؤلاء الحلفاء ليسوا سوى عملاء وجواسيس لإيران. وترى السعودية أن كل صاروخ يطلقه الحوثيون اليمنيون على السعودية، رغم ضآلة آثاره التدميرية بالقياس الى حملة القصف السعودية على اليمن المتواصلة منذ أربع سنوات، ما كان لينطلق، برأي السعوديين، إلا بتوجيه مباشر من طهران.
فخلال الايام القليلة الماضية، مثلاً، ادعى الامير خالد بن سلمان، وهو نائب وزير الدفاع وشقيق ولي العهد الحاكم الفعلي للسعودية الأمير محمد بن سلمان، عبر حسابه في موقع تويتر أن الهجمات التي شنتها طائرات بلا طيار على محطات ضخ النفط السعودية قد صدرت أوامرها من إيران. قال ان “الافعال الارهابية، التي ارتكبت بأوامر من نظام طهران ونفذها الحوثيون، أخذت تضيق عقدة الحبل على المساعي السياسية الجارية”، ثم اضاف: “هذه المليشيات ليست سوى أداة يستخدمها النظام الإيراني لتنفيذ أجندته التوسعية في المنطقة.”
إن رد الفعل هذا، المفعم بوساوس الشك والخوف من جانب الحكام السنة تجاه ردود فعل صادرة عن مجتمعات شيعية محددة (كالحوثيين في هذه الحالة) وإرجاعهم كل ما يحدث بلا استثناء الى إيران ويدها الموجّهة، ليس بالشيء الجديد. فخلال العام 2011 كنت أزور البحرين، وكان نظام الحكم الملكي هناك، المنتمي الى الاقلية السنية، قد سحق لتوه، بمعونة من الجيش السعودي، حركة احتجاج وتظاهرات قامت بها جماهير الاغلبية الشيعية. ومن بين الذين تعرضوا للتعذيب جراء ذلك اطباء شيعة يعملون ضمن مستشفى كان يقدم العلاج للمتظاهرين الذين تعرضوا للاصابات، وكان من جملة الادلة التي اتخذت ضدهم هو جهاز يعمل بتكنولوجيا طبية متقدمة (لا اتذكر إن كان يستخدم لمراقبة وظائف القلب أم الدماغ أو ربما حالات طبية اخرى) حيث اتهم الاطباء بأنهم كانوا يستخدمونه لتلقي توجيهات من إيران عن كيفية إذكاء سعير الثورة.
نقاط ضعف أميركية
نظرية مؤامرة على كل هذه الدرجة من السخف لم تكن تلقى اذناً صاغية لدى واشنطن من قبل، ولكن ترامب ومعاونيه لهم سجل مشهود في سرعة المبادرة بإعلان أن كل فعل “ارهابي” تقريباً يمكن اقتفاء اثره حتى يتصل بإيران. هذا النوع من الاعتقاد يحمل معه خطر اشعال شرارة الحرب بين الولايات المتحدة وإيران لأن هناك كثير من شيعة الشرق الأوسط الغاضبين الذين قد يعمدون الى مهاجمة منشآت أميركية في مكان ما بمبادرة خاصة منهم.
كذلك قد يخطر لأحد ما في أي دولة من تلك الدول المتلهفة لرؤية المجابهة تندلع بين أميركا وإيران (تتبادر الى الذهن هنا السعودية والامارات واسرائيل) أن افتعال حادثة استفزازية والقاء تبعتها على إيران قد يصب لصالحه. لكن ما الذي يمكن أن تحققه مثل هذه الحرب لو وقعت؟ غزو إيران عسكرياً أو سياسياً لن يكون أمراً وارداً، لأنه لن ينتهي الى نصر حاسم. حملة القصف الجوي والحصار البحري قد تكون ممكنة، ولكن هناك نقاط ضغط عديدة جداً بوسع إيران انتهازها للانتقام، بدءاً من تلغيم مضيق هرمز الى اطلاق الصواريخ نحو منشآت النفط السعودية الواقعة على الجانب الغربي من الخليج.
ثمة خلل آخر قد لا يلحظه كثيرون عند شجب الولايات المتحدة للتدخل الايراني عبر الحلفاء المحليين لدى سوريا ولبنان والعراق، حسب ادعائها. فعدا كون ذلك الشجب مبالغاً به، على افتراض صحته، فإنه قد جاء متأخراً جداً، لأن إيران اليوم تقف مع الجانب الرابح لدى هذه الدول الثلاث جميعاً.
إذا ما وقعت الحرب فإن مخاضها سيكون عسيراً، لأن الشرائح الشيعية في عموم المنطقة سوف تشعر بأنها تحت طائلة التهديد. اليوم الأول لمن يبدأ حرباً في الشرق الاوسط يكون هو الافضل دائماً، كما كان دأب الولايات المتحدة، ومن بعده تبدأ الخطط بالتفكك وتتشابك الخيوط لتشكل شبكة عنكبوت معقدة من أخطار أغفل رؤيتها، وفاته أخذها
بالحسبان.