د.مصطفى جاسم البهادلي
قد لا أكون مغاليا إذا قلت ،للجغرافيا تأثير يتفوق على غيرها من العوامل المؤثرة في السياسة وتحديدا صانع القرار السياسي،وبسبب حجم التأثير المتبادل بينهما ظهر علم مختص يتناول علاقة المؤثر “الجغرافيا “ بـ متأثر وهو” السياسة “ والمعروف بالجيوبولتك . فالجغرافيا تملي على صانع القرار استحقاقات تلزمه بالأخذ بها والانصياع لها غالبا ما تكون على شكل قرارات سياسية تأخذ مدياتها في التطبيق على المستويين الداخلي والخارجي . والشواهد كثيرة على ما تقدم فوجود ألمانيا الجغرافي ولكونها محاطة باليابسة من جميع الجهات فرض على صانع القرار الألماني منذ الإمبراطورية وحتى هتلر اعتماد سياسة عسكرية تحتل القوات البرية فيها القدح المعلى على بقية أصناف القوة العسكرية الأخرى ،عكس الولايات المتحدة الأمريكية التي فرضت الجغرافيا على صانع القرار فيها الاتجاه صوب القوة البحرية والجوية الأهمية القصوى على حساب القوة البرية ونفس الشيء يقال بالنسبة الى بريطانيا التي طورت القوة البحرية بشكل مطرد بسبب إحاطتها بالمياه من كل جانب .
وبقدر تعلق الأمر بالعراق فوجوده الجغرافي بين الدول المحيطة به يجعله يتوسط الدول الستة المحيطة به وبالتالي تفرض عليه الجغرافيا لأن يتبنى فكرا سياسيا وسطيا ومعتدلا يستطيع معه تصريف سياسته الخارجية بمقتضاه ، بعيدا عن التطرف والمغالاة على أن تكون مصلحة العراق حاضرة في كل تفاصيل المشهد السياسي الخارجي . فالابتعاد عن سياسة المحاور الإقليمية هي استحقاق جغرافي قبل أن يكون سياسيا والنأي بالنفس عن التورط بمشاريع عدوانية ضد دول الجوار إيران تحديدا كما تسعى إلى ذلك الولايات المتحدة الأمريكية الباحثة هذه الأيام في المنطقة عن صدام آخر يفتح النار ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية ..كلها شروط تمليها جغرافية العراق الوسطية بين دول الإقليم ، فالوسطية في السلوك السياسي العراقي هي نتاج جغرافية العراق أولا وأخيرا . بمعنى أن عدم الأخذ بنظر الاعتبار استحقاقات الجغرافيا من قبل صانع القرار السياسي العراقي تجعله يميل لاتجاه من دون آخر وهذا من أكبر الأخطاء في مجال السياسة الخارجية لأن ذلك من شأنه أن يفقد دعم الآخرين له ويبعده عن أداء دور محوري ومركزي بين أطراف متضادة يمكن الاستفادة من كل متناقضاتها لتصب في مصلحة العراق أولا وأخيرا وهذا لم يكن ليتحقق إلا من خلال سياسة وسطية تحظى بثقة الجميع واحترام الجميع ولنا في سلطنة عمان مثالا يحتذى حينما أتبعت منهجا وسطا ومعتدلا اكتسبت من خلاله ثقة الدول الإقليمية فضلا عن المجتمع الدولي فهي لم تنخرط في سياسة المحاور الإقليمية والدولية ولم تكن في يوم ما جزءا من مشاريع عدوانية في المنطقة لا في الحرب العراقية الإيرانية 1980- 1988 ولا جزءا من الحصار على العراق ولا جزءا من العداء إتجاه الجمهورية الإسلامية الإيرانية على الرغم من كل الضغوط التي كانت و ما زالت تتعرض لها من قبل المجموعة الخليجية جراء موقفها المسالم والمعتدل .......
إن موقع العراق الجغرافي بين دول الإقليم يقتضي ويوجب إنتاج صانع قرار يستجيب لشواغل و هواجس ومتطلبات الجغرافيا التي تلزمه ببناء علاقات ودية تأخذ بنظر الاعتبار مصلحة العراق التي تكمن في المساهمة وأداء دور دبلوماسي في حل المشاكل المحيطة بالعراق وهي كثيرة ليس آخرها العداء الأمريكي لإيران .....فمثل هكذا دور وسطي من شأنه أن يحول العراق من دولة طرفية الى دولة مركزية فاعلة في النظام الإقليمي لاسيما في ظل الانشغال المصري الداخلي وانحيازه الواضح للمشروع الأمريكي والتعافي السوري المتصاعد والمهتم في ترميم ذاته وخروج الجزائر وليبيا والسودان من معادلة التأثير الإقليمية فضلا عن تدهور العلاقات الخليجية الخليجية بفعل الأزمة القطرية والتورط في الحرب العدوانية ضد اليمن الفقير . كل ذلك من شأنه أن يساعد العراق لأن يؤدي دورا وسطيا تمليه عليه متطلبات الجغرافيا قبل ضواغط السياسة ،فميزة الجغرافيا تحويل محددات وموانع السياسة إلى فرص متاحة ،فهل من مستثمر لها ؟.