الوعظ والأفعال

آراء 2019/05/27
...

نصير فليح
 
حتى بالنسبة لمن هو غير مسلم، أو لا ديني أصلاً، فإن مناسبة شهر رمضان لا يمكن انكار اهميتها وسعة نطاقها. وسبب اهمية هذه الظاهرة، بالرغم من دين المرء او فكره، انها تشمل مئات الملايين من الناس، والإسلام هو ثاني اكثر الأديان انتشارا في العالم. وان مدة الصوم هي شهر كامل، أي مدة طويلة حتى بالنسبة لمظاهر الصوم في الأديان الأخرى.
تجولتُ بالأمس في المدينة في وقت الإفطار، ولاحظت كيف ان مجتمعنا، كما هو الحال مع مجتمعات كاملة في بلدان عديدة، تتغير تفاصيل يومياته بشكل كبير خلال هذا الشهر. وكيف ان هذه الحالة المعيشية اليومية، المؤسسة على أساس ديني، يمكن ان تكون مناسبة خصبة فعلاً للنهوض الروحي والاجتماعي، بل الاقتصادي والسياسي ايضا، اذا ما تم توظيفها بالشكل الملائم، والتركيز فيها لا على الوعظ، بل على الأفعال.
مساعدة الفقراء والمعوزين، وهي من الأبعاد المهمة المتضمنة في هذا الشهر، لو اتخذت طابعا اجتماعيا مرئيا وملموسا في المجتمع على نطاق واسع، يمكن ان تكون ممارسة ودرسا اخلاقيا للمجتمع عموما، لا سيما للاجيال الجديدة التي رأت الكثير من مظاهر العسف والانانية والعنف والقسوة، ولم تر الا القليل من الرحمة والمودة. بالطبع ان افعال الخير تكون أكمل وأعمق إذا ابتعدت عن الاعلان والترويج او التوظيف للمصالح الشخصية، ولكن من جهة اخرى، لو تحولت الى حالة مرئية في الشارع والمجتمع بشكل يومي على امتداد شهر كامل، مع الحرص على عدم الاعلان او الترويج للجهات المبادرة، فذلك سيكون مظهرا اجتماعيا وانسانيا مهما ايضا.
أنْ تقوم المحال والاسواق باعلان تخفيضات في هذا الشهر، تقلل فيه من هامش الربح المتوقع، أو ان يتم تمويل مطاعم مجانية لتقدم وجباتها لمدة شهر كامل، من جهات قادرة على هذا التمويل، او تتحرك جماعات من فاعلي الخير في الشوارع والمناطق السكنية لتلاحظ الفقير والسائل والمحروم، وتمد له يد العون. من المؤكد ان بعض هذه المبادرات، رغم المصاعب المتوقعة، قد ينجح ولو جزئيا. فضلا عن مبادرات أخرى، مثل تنظيف المناطق السكنية والعامة، أو زيارة المستشفيات والاطلاع على الحالات الأشد حاجة للمساعدة العاجلة، كل هذا عندما يكون محسوسا وظاهرا للمجتمع، لا بد ان يترك تأثيره الايجابي.
هذا على الجانب الاجتماعي والاخلاقي، ويمكن ان نسترسل اكثر قليلا ربما، لنتخيل بعض التقاربات بين الكتل السياسية المتنافرة نفسها، واستغلال مناسبة شهر كهذا لحل بعض الاشكالات العالقة الممكنة الحل على الاقل، والتي يمكن تخطيها بشيء من التنازلات المتبادلة، ومبادرات حسن النية وتصفية النفوس وتعزيز الثقة وتطييب الخواطر، ولن يكون في ذلك الحراجة التي تقترن بخطوات كهذه في وقت اخر، ما دامت تجري تحت ظل رسالة اخلاقية واسعة النطاق ومعروفة للجميع، وهي استلهام هذه المناسبة الدينية انسانيا لتقديم مثال عملي، لا مجرد الوعظ المنفصل عن الفعل والحياة.