السودان إلى أين؟

آراء 2019/05/27
...

حازم مبيضين
 
بعد مفاوضات ماراثونية، أعلن تجمع المهنيين السودانيين، أن منتسبيه مستعدون للاضراب العام والعصيان المدني الشامل، لكسر شوكة العسكر واسقاطهم لمضيهم في طريق من سبقوهم بعدم التسليم والتعنت في التفاوض. ويأتي هذا التلويح بالتصعيد باعتباره السلاح الوحيد لتحقيق مطالب المحتجين التي تنص على تسليم السلطة للمدنيين، ومحاسبة رموز النظام السابق، وإرساء الحرية والعدالة والمساواة. وكان التجمع والحزب الشيوعي السوداني طالبا بإسقاط الحكم العسكري وتنفيذ سلسلة من الاعتصامات والاضرابات في عموم البلاد، لفرض مطلب المحتجين بنقل السلطة للمدنيين، بعد اتهام المجلس بعرقلة انتقال السلطة للمدنيين وبمحاولة إفراغ الثورة السودانية من جوهرها وتبديد أهدافها، وقال التجمع إنه لا مناص من إزاحة المجلس العسكري لتتقدم الثورة لخط النهاية، مؤكدا أن تمسك المجلس العسكري بالأغلبية في مجلس السيادة وبرئاسته، لا يوفي بشرط التغيير ولا يعبر عن المحتوى السياسي والاجتماعي للثورة. وقال الحزب الشيوعي إن تعنّت العسكر وتمسكهم بأن تكون لهم الأغلبية والرئاسة في مجلس السيادة يؤثر سلبا في الثورة ويعيق تحقيق أهدافها المتمثلة في تصفية بقايا النظام الفاسد، ولجم الثورة المضادة التي بدأت تنشط في محاولة يائسة لإعادة عقارب الساعة للوراء، وتصفية مليشيات الإسلاميين وإعادة هيكلة جهاز الأمن والمخابرات.
وهكذا عاد المشهد السوداني إلى مرحلة ما قبل المفاوضات وتتجلى عودته إلى تلك المرحلة في الشعارات التي تطالب بحلّ “العسكري”، وتسليم السلطة إلى المدنيين، والواضح أن تجديد قوى الحرية والتغيير دعواتهم إلى مسيرات مليونية صوب مقرّ الاعتصام أمام قيادة الجيش والتمهيد لتنفيذ إضراب وعصيان مدني. كما تتجلى في تجاهل العسكري مطالب الشارع، واستمراره في إصدار القرارات غير المُخوّل بها جهاز يفترض أنه انتقالي، من خلال إعادة عمل النقابات والاتحادات المهنية والاتحاد العام لأصحاب العمل، والتي كان المجلس قد جمّدها في ظلّ اتهامات تواجهها بسيطرة موالين لنظام البشير عليها، إلى التمهيد لسحب بساط الشرعية من التجمعات المهنية غير الرسمية التي تشكل تجمع المهنيين السودانيين، علماً بأن هذا التجمع يستلهم قوته من العمل الجماعي، وقد أثبت قدرته على تنظيم الاحتجاجات في ظلّ التزام المتظاهرين بالساعة التي يحددها التجمع للتظاهر.
نحن هنا إزاء معركة كسر عظم بين المحتجين والعسكر في حين بدأت الثورة المضادة تنشط وسط جمود المفاوضات، وبدأ قادة الجيش يتراجعون عن تعهدهم بتسليم السلطة إلى المدنيين. في حين تُعدّ ستراتيجية تبديد الوقت في التفاصيل الصغيرة وترك الآخرين يصارعون سلاحاً بحدين. مع وجود مؤشرات على انقسام داخل قيادة الجيش والقوات النظامية. وبمواجهة حالة يجب فيها أن يدرك العسكريون أن المدنيين لا يثقون بهم ويميلون إلى الحذر في التعامل معهم، وذلك نتيجة التجارب المرّة للحكم العسكري في عهدَي النميري والبشير، كما يجب أن يُدرك المدنيون أن تاريخ دولتهم عملياً هو تاريخ الحكّام العسكريين، وأن حكم المدنيين كان متقطّعاً واتّسم بخلافات على السلطة بين زعماء تقليديين وأحزاب فُصّلت على قياس أشخاص، وبحركات تمرّد في الأطراف حمل بعضها السلاح في وجه الدولة المركزية، تلك التي كانت قليلة الوعي بأحوال المواطنين في بلد شاسع الأطراف ومتنوّع أشكال الاجتماع. وانحصر اهتمام أهل الدولة المركزية بالخرطوم وأم دُرمان، وفي أحسن الأحوال ببورسودان لكونها الميناء الرئيس وشرياناً اقتصادياً لا يمكن إهماله. واليوم تحتاج الاجتماعات بين المدنيين والعسكريين إلى جلسات كثيرة لاستعادة الثقة قبل فتح ملفات المستقبل لدولة تحتاج إلى إعادة تكوين، بعدما حطمتها قسوة الحكم العسكري وضيق أفق السياسيين المدنيين. وفي كل الأحوال هي فرصة للطرفين للوصول إلى دولة مدنية سودانية تحترم الحريات وتحفظ الأمن لشعبها ولدول الجوار، من طريق الجيش والقوى المسلحة الشرعية التي تنفّذ القانون ولا تتخطّاه مهما بلغت سطوة سلاحها.
ولعل عنصر الضغط الأساسي الذي يدفع المدنيين والعسكريين إلى اتفاق على إدارة المرحلة الانتقالية هو الشباب السوداني، الذي يرابط في الساحات داعياً إلى تخطي فشل تجربتَي المدنيين والعسكر، نحو دولة قانون مدنية تعترف بالتنوُّع وتنهض بالإنماء وتعي مصالح الجوار الجغرافي، ذلك أن حكم بلد غني بالبشر والثروات يحتاج إلى أفق واسع يتجاوز سطوة السلاح ومزاج السياسيين المحترفين.