طيور زهير

ثقافة شعبية 2024/03/07
...

كاظم غيلان 



تزخرُ الذاكرة العراقيَّة أو لنقل الذاكرة الجمعيَّة بتلك الأغاني التي بعثت الأمل كفكرة في وجداننا. الذي حصل مطلع سبعينيات قرننا الفائت من انعطافة حادة في أغنية العراق تحقق بأصوات وألحان وشعر. طاقاتٌ إبداعيَّة تدافعت واندفعت لتحيل الرماد إلى ورد!

ما أصعب المعادلة، ما أصعب هكذا تغيير في مجرى ذائقة شعبٍ لا يتفقُ مع ذاته، إلا أنَّه: يغني! كانت كلمات زهير الدجيلي طوع متلقفٍ ثائرٍ على كل الأطر التقليديَّة والقالبيَّة هو كوكب حمزة، وقتذاك كنت صغيراً جداً في مساحة التلقي وأنا أستمعُ لثنائي يغني:

كون بعد لويله.. يا هلويله                    كون ساعه وليله.. يا هلويله 

كانت مائدة نزهت يقابلها فاضل عواد.. وكنَّا نعشقُ بلا حدود حياتنا التي نهبتها الانقلابات العسكريَّة و(الثورات) الكاذبة... و... الخ.

ذات صيفٍ أطلَّ سعدون جابر ليغني:

يا طيور الطايره مري بهلي            يا شمسنه الدايره ضوي لهلي

صدمتنا الأغنية، رحنا نبحثُ عن أسرار دموعنا، نفتشُ عن خفايا بلهجتنا.. رحنا نمسكُ أيادي من أحببناهم. كل ذلك موشكٌ على الرحيل، ولكنْ ثمة آمالٌ أعلنت عن نفسها، وها هو محسن فرحان يطلق لنا: البارحة. إنَّ تفاصيل الزمن العراقي غاية في الإرباك، إياك أنْ تدنو من هكذا زمنٍ وإنسانه، فلربما يصرخ بوجهك محتجاً، إياك والعاشق العراقي؛ لأنَّه أتقن لغة الحب برغم ما تضخ الكراهية من لغاتٍ وأفعال، برغم الرصاص ثمة وردٌ يستدعيه زهير الدجيلي ويحيلنا للحب، الحب وحده ونغني:

برد الحدايق عافيه ينجوى 

أحسُّ بخسارة كبيرة في أنْ يغادرنا زهير الذي غاب جسداً، لكنَّني أصرُّ على محبتي له كواحدٍ ممن رسخوا الحب في روحي.

تظلُّ طيورنا مهاجرة؛ لأنها أغنيات حلَّ مكانها نكراتٌ و(غربان) شؤم من زمنٍ أتمنى ألا يطلَّ علينا؛ لأنَّنا نحبُّ الحياة بوصفها زهير.

رحل زهير الذي أعان ذائقتنا في تحملها مشاقَّ صحراءٍ قاسية وخلق فيها ينابيعَ تقاوم الضواري، مخلفاً الأغنيات حيث تعيده إلينا لنتذكره بحبٍ وكأنَّه يعيدُ علينا واحدة من رسائله التي ظلت تحضرنا بحبٍ لتوقظ فينا ذلك الأسى العراقي الذي أنشده قبل عقود:

"عيني اويا عينك مثل 

نجمه اويا نجمه بليل 

لاهن ينامن سوه 

ولايصحن ابهليل 

والحيره بير الضبر 

والروح مثل السيل 

ولكدر اكلك نظل 

لكدر اكول انشيل 

جا ليش ياوطني 

واحنه نولدنه اثنين 

شاطي وسفينه 

وعرفنه الموت مو مرتين".

نعم يا أبا علي، إنَّه الموت لمرة واحدة فقط، لا غير، لكنَّ أغنياتك تعيدك يومياً إلينا.