مهندسات لهُنَّ رؤى تُغيّر العمارة
أوليفر وينرايت
ترجمة: مي اسماعيل
لا يزال إبداع النساء الموهوبات معزولا في حقل العمارة؛ بينما يحتفي كتاب {100 امرأة: مهندسات معماريات في المهنة} الجديد بالنتاج المبهر الذي قامت به مئة معمارية متميزة؛ من مشروع السكك الحديدية الأسطورية في نيوزيلندا إلى برج كييف ذي المرايا ومهبط طائرات الهليكوبتر..
بالنسبة لمهنة تزايدت فيها فجوة الأجور بين الجنسين خلال السنوات القريبة الماضية، وبات من المألوف أن تكون المؤتمرات حافلة بالحضور الرجالي حيث لا تزال الثقافة الرجولية تسود مواقع البناء؛ فإن كتابا مثل هذا (للأسف) لا يزال له مكان.
يوثق كتاب “100 امرأة: مهندسات معماريات في المهنة” عبر ثلاثمئة صفحة أعمال نساء معماريات من أرجاء العالم. والأمل انه سيكون مفيدا لمنظمي القوائم المختصرة للمسابقات، ولجان الاختيار، وهيئات تحكيم الجوائز، ولجان التوظيف، والمعارض لتنويع قوائمهم التي يهيمن عليها الذكور. وهو مخصص للباحثين عن الكفاءات الذين يزعمون أن النساء لا يتقدمن أبدا، ولمن يقولون إنهم لا يستطيعون العثور على معماريات يتمتعن بالخبرة المناسبة. إنهن موجودات.. وهذه مجرد عينة؛ وليست دراسة استقصائية شاملة.
لا يسعى الكتاب لمجرد ادراج بضعة أسماء لمعماريات بين أغلبية من المعماريين؛ بل لتغيير المعايير التي يتم بها الاحتفاء بالمعماريين. ولذلك يقدم عرضا أنواع أخرى من “الممارسة الهندسية المكانية” وطرقًا مختلفة للعمل، بما يتجاوز التكليفات المعتادة للمشاريع والعلاقة التقليدية بين المعماري والعميل.. انه يتعلق بأكثر من مجرد تصميم المباني وحدها.
سهيلي فرزانا- بنغلادش
تعمل المعمارية “سهيلي فرزانا” المشهورة في بنغلاديش مع المجتمعات المحلية لتصميم المنازل والبنية التحتية العامة؛ ومنها- المرافق الصحية للنساء (وهذه ما زالت أمرا شحيحا في البلد)؛ والتي يمكنهن تخطيطها وبنائها بأنفسهن. وهناك مشروع في مدينة جينايدة البنغلاديشية يسعى لتوسيع الممرات على طول مسار النهر، وتنفيذ مرافق مثل مناطق الجلوس المُدرّجة والمراحيض ودرجات النهر، للغسل والاستحمام في عملية “التطهير والتنظيف”.. بالمعنيين- الحرفي والمجازي. ترى فرزانا أن دورها يكمن في تسهيل تمكين النساء المحليات من التعلم معا؛ قائلة: “في هذه المسار نحاول أن نكون غير مرئيين”.. وليس من المعتاد أن تسمع مهندسا معماريًا يقول ذلك!
تخمينا تورديالييفا- أوزبكستان
شاركت تخمينا تورديالييفا بتأسيس منظمة “شهرسوزليك تولكيني” المكرسة لإسماع أصوات المهندسين المعماريين الشباب احتجاجا على التنمية الحضرية الطائشة التي تنتج عن المناقشات العامة المتعجلة.
تقول تورديالييفا: “يكمن سبب فقدان المعماريين لسلطتهم الاجتماعية في أوزبكستان في موقفنا السلبي أو اللامبالي تجاه مدننا”. لكن المعماريين الشباب (على الجانب الآخر).. “شجعان وجريئون ومليئون بالتطلعات”. تقول انها خلال نشأتها في طشقند.. “لم تتصور قط ان بإمكانها ان تكون معمارية” لكونها إمرأة. لكنها اليوم تُدير مكتبها الخاص؛ “Tatalab”؛ الذي يُصمم كل شيء بدءًا من الحرم الجديد لجامعة علمية وحتى تجديد مبنى وكالة مكافحة الفساد الحكومية.
مريم إيسوفو كامارا- تعمل في النيجر
تقول مريم: “اريد أن أُرسي طريقة عالمية للعمل تُقدّم نتائج متباينة تماما إعتمادا على موقع المشروع؛ تقوم على الاهتمام بالظروف المحلية: ما يتوفر من المهارات المحلية والتاريخ ((والموارد)).. ثم بإنتهاج هذا المسار يمكن تحقيق الطريقة التي تصلح لكل مكان”.
مثل غيرها من المعماريات نشأت مريم وهي لا تتخيل امكانية أن تصير معمارية، وبدأت هذه المهنة في وقت لاحق من حياتها. وطورت منذ ذلك الحين عملا متجذرا في سياقها المحلي؛ مما جذب اهتماما عالميا. في قرية دندجي، قامت مريم بتحويل مبنى متداعي إلى مكتبة ومركز مجتمعي (بالتعاون مع مكتب آخر)، باستخدام الطابوق الطيني المضغوط ومونة الطين الرابطة لإنشاء إضافة للمبنى بإسلوب معاصر تنتمي الى موقعها بسهولة. صممت مريم أيضا سوق المقاطعة الواقعة في ذات القرية؛ بإنشاء أكشاك بيع من الطابوق الطيني، مظللة بمظلات معدنية ملونة من مواد أعيد تدويرها. تقول المصممة ان التحدي كان أن.. “أقوم بخلق شيءٍ معاصر الى أبعد حد دون أن أجعل الناس يشعرون انهم لا يعرفون كيف يستخدمونه؛ ما يجعلهم يشعرون بعدم الكفاءة”. منذ ذلك الحين باتت السوق مركزا تجارية صاخبة، فضلا عن كونها منطقة جذب سياحي إقليمية، يعززها مستخدموها.
خطوطٌ مشتركة
وضع الكتاب أربعة مؤلفين؛ هم كل من: “هارييت هاريس” و”ناعومي هاوس” و”مونيكا باريندر” و”توم رافنسكروفت”، وهم ينتمون إلى أوساط أكاديمية وصحافية لدى المملكة المتحدة والولايات المتحدة؛ لكنهم سعوا إلى تقديم صورة عالمية. استخدم هؤلاء المؤلفون “المخطط الجغرافي” للأمم المتحدة (وهو عبارة عن نظام يقسم 248 دولة وإقليما في العالم إلى ست مناطق قارية وأقاليم فرعية، لأغراض إحصائية، ولا يتضمن أي افتراض عن الانتماء السياسي أو غيره لتلك البلدان أو المناطق- المترجمة نقلا عن موسوعة ويكبيديا).
وهو مخطط مكون من ست مناطق قارية لإبراز مهندسين معماريين من 18 منطقة فرعية، واختيار ما بين أربعة وستة من كل منطقة. وكانت النتيجة هي مجموعة منتقاة بشكل مدهش؛ من أمثال الأوكرانية “سفيتلانا زدورينكو” مصممة برج المكاتب الزجاجي “المرآة” في كييف ويعلوه مهبط للطائرات العمودية، إلى الثلاثي الفنلندي “سايجا هولمين” و”جيني رويتر” و”هيلينا ساندمان” اللواتي يعملن على المشاريع الإنسانية في أفريقيا. ضم الكتاب عرضا لمشاريع متنوعة: منازل خاصة وورش عمل لرسم الخرائط التشاركية؛ لكن الأهم انه يُقدم تصورا لتنوع مهنة العمارة اليوم. كشفت مقابلة المعماريات عن وجود خطوط مشتركة بينهن، وسُلّط الضوء على معماريات يقمن بإحياء التقاليد المحلية للسكان الأصليين في مواجهة طوفان عولمة الحديد والزجاج.
ترى الباحثة “سارة لين ريس”؛ وهي من شعب بالاوا في تسمانيا (استراليا)؛ “أن العمارة تمتلك القدرة على إعادة الهوية والحيوية التي غادرتها عمارة الماضي”. قد تكون العمارة عملا عنيفا؛ لكنها تمتلك ايضا القوة على إبطال ذلك العنف؛ كما تمضي ريس قائلة: “كل مشروع في استراليا هو بالفعل في دولة ذات كيان للحضارة الأصلية؛ والعمارة يمكن أن تكون مُدمرِّة غالبا. تعكس النُظُم التي يعمل بها المعماريون غالبا هيكليات الاستعمار الاستيطاني؛ وتلك الهيكليات تصبح متغلغلة الى حد انها باتت الآن “أمرا طبيعيا مألوفا” بالنسبة لنا”.
“إليسابيتا هيتا”- نيوزيلاند
عملت نيوزيلاند (واسمها الأصلي “أوتياروا-Aotearoa” بلغة الماوري الأصليين) على مخاطبة قضايا السكان الأصليين منذ وقتٍ أطول من غيرها؛ إذ أدخلت مدينة أوكلاند (أو “تاماكي ماكويورو – Tamaki Makaurau” بلغة الماوري) مبادئ تصميم “تي أرانغا ماوري” ضمن قوانين تخطيط المدينة منذ العام 2005، وهناك عدد متزايد من المكاتب المعمارية التي تعمل وفق أسس تلك المبادئ، اضافة الى فريق عمل متخصص بها ضمن المكاتب الاخرى. ساهمت “إليسابيتا هيتا” خريجة الهندسة المعمارية وفق أسس تصاميم الماوري، في تأسيس فريق عمل “Waka Maia” في شركة تجارية كبيرة؛ لترسيخ تلك المبادئ في التطبيق العملي. خلال فترة دراستها لم يكن هناك الكثير من مُدرسي تلك المبادئ، ولا مصممين أو مُفكرين يتعلم منهم الآخرون أو يناقشونهم حولها.
ولكن اليوم ازداد الوعي بأهميتها. تعمل هيتا ضمن مشروع سكة حديد أوكلاند الجديد، وهو من أكبر مشاريع البُنى التحتية في تاريخ المدينة. وجرت الاستعانة بفنانين من شعب الماوري لتصميم بعض المحطات والمقتربات؛ ومنها- جسر للمشاة يستحضر شكل أدوات قطع الحجر الأصلية التي عُثِر عليها قرب الموقع. تمضي هيتا قائلة: “المشاريع والبيئات والمباني التي تُنسَج جوهريا من خلال قصص المكان وبمنظور السكان الأصليين تؤدي إلى وجود ارتباط أعمق بين جميع الناس وذلك الموقع”.
لنأمل أن يأخذ كتاب “100 امرأة: مهندسات معماريات في المهنة” القراّء ليكونوا اقرب الى عالم لا تضطر فيه معمارية اخرى ان تمر بما مرّت به “سيثابيل ماثي” والعديد من النساء الأخريات.. تقول ماثي: “حينما أقول لأحدٍ ما في بوتسوانا انني معمارية تُقابلني غالبا نظرات عدم التصديق، أو- على أحسن الأحوال.. إبتسامة ساخرة مهذبة..”.
صحيفة الغارديان البريطانية