انعكاس الأحداث العالميَّة على الفكر العربي المعاصر

آراء 2024/03/12
...

 أ.د.عبد الواحد مشعل

 من يقرأ التاريخ العالمي، يجد هناك فرقا بينياً بين أصالة الفكر العالمي وابتكاراته الحديثة، بنظرياته الشرقية والغربية، وبين الواقع العربي المعاصر فكرا ووعيا، فما حصل من أحداث كبرى في التاريخ الحديث من الثورة الصناعية في انكلترا والثورة الفكرية في فرنسا، وما تجلي من أيديولوجيا شمولية بعد الثورة الروسية سنة 1917، يجد فرقا واضحا في طبيعة تكوين الثقافي كل ذلك،

وبين الفكر العربي وتراثيته الثقافية، وواقعه في المرحلة، التي انتشرت فيها الافكار الجديدة على الساحة العالمية، حتى لبس الفكر العربي لبوسا شرقيا أو غربيا على مستوى النظرية، مقلدا لما احتواه النمطان الفكري الشرقي والغربي من افكار ورؤى اقتحمت العقل العربي، لا سيما النخب العربية محاولة نفض غبار الأفكار التقليدية إبان الحقبة الثانية من العهد العثماني، بعدما كانت الحضارة العربية والإسلامية في زمن الإبداع الفكري والحضاري في عهد الدولة العباسية وما قبلها، ليجد الفكر العربي المعاصر نفسه مجبرا في الدخول في عصر الحداثة، ناشدا التحرر الفكري والتفاعل مع ابتكاراته التكنولوجية، ومتأثرا بالأفكار والأيديولوجيات، التي تلامس رغبته في الدخول في عصر جديد، تارة كرد فعل لما يعيشه واقعه من تأخر، وتارة اخرى إعجاب بنتائج تلك الأحداث الكبرى، حتى عاش مرحلة صراع محتدمة بين الأصالة والتقليد، فمن يبحث عن الأصالة يقف عاجزا عن تقديم نموذج ابتكاري، سواء على مستوى الفكر أو على مستوى الإنجاز التكنولوجي، ليتمكن من تحقيق تغير ثقافي بنيوي في الأبنية التقليدية للمجتمع، ومن يقف في صف التقليد يواجه أخطبوط التبعية، غير قادر على بلورة وعي فكري عربي، ينبع من جوهر الثقافة العربية، حتى أصبح متأرجحا بين الأفكار النظرية، التي أنتجتها الأحداث العالمية الكبرى، وبين واقع يقبع بطن التاريخ، عاجزا عن استحضاره بشكل يوازي الأحداث الكبرى في تاريخ العالم الحديث، حتى إذا ما جاءت العولمة بأيديولوجيتها الغربية المعاصرة، وقع في فخ ثقافة تريد سلب أصالته وهويته الثقافية، ليجد الإنسان العربي نفسه أمام تحديات ضخمة، وأحداث كبيرة، غير مهيأة للاندماج معها بالإنجاز العلمي والتقني، وبقي يتلقى آثارها الاجتماعية والنفسية والثقافية مهددة هويته الثقافية، ومهددة انتماؤها الأسري والمجتمعي، تفصله عن تاريخه الحضاري مرحلة انقطاع طويله، منعكسة آثارها على وعيه
الثقافي، ما وضع الفكر العربي الحديث والمعاصر في أزمة حقيقية،، عاجزا بشكل حاسم من تكوين معرفة تعبر عن أصوله الحضارية، فهو اليوم في حيرة بين واقع يعيشه من ضعف وهوان تحجب عنه تحقيق ابتكارات وإنجازات فكرية وتطبيقية، ليكّون قطبا ثقافيا مستقلا يؤثر في الأقطاب الأخرى، التي باتت تتبلور في عالمنا جديد، بخريطة سياسية واقتصادية وفكرية تعكس واقعها، وتنهص بوعيها من أجل إثبات هويتها الثقافية، وبين واقع
عربي يعيش ظروفه الصعبة بين قوى ضاغطة عليه من جهة وقوى عولمية تستهدف ثقافته من جهة أخرى، لذا فإن انعكاسات الأحداث الكبرى في التاريخ العالمي الحديث على حركة الأفكار في عالمنا العربي المعاصر، وامكانية قراءتها في عصر جديد تكون فيه الأجيال القادمة بفكرها ووعيها المتفاعل مع لغة العالم الحضارية وغير منفصلة عنه ابتكارا وانجازا، متسلحة بالمعرفة الإنسانية مستحضرة روح حضارتها الإنسانية، ومعززة هويتها الإسلامية والعربية، متخلصة من عصر الانحطاط الذي يعيشه الواقع في المرحلة الحالية، حتى بات الاسترخاء الجماهيري تجاه ما يقع من جرائم بشعة ضد شعبنا العربي الفلسطيني في غزة، حالة مؤسفة تحت ضغوطات اقتصادية وتشويهات إعلامية وتبريرات لا يمكن ان يقبلها منطق الوعي الجمعي، وفي حالة وضع كل ذلك في ميزان عملية تقييم موضوعية، لا يمكن أن تخرج نتائج ذلك عمّا يعيشه الإنسان في العالم العربي من انقسامات داخلية وحروب وصراعات
على السلطة وحالة فقر وتهميش وتشويه منهجي، ما يجعل انعكاس الأحداث العالمية على الفكر العربي، يفرض واقعا مرًّا على حاضر الانسان العربي، جعله منزويا على نفسه تحت ظروف قاهرة، وقولبت له قوالب فرضت عليه، أدت به ألَّا يكون مهتما على ما يجري من انعكساات فكرية خطيرة تحيط به من كل زاوية، حتى وضعت المنطقة العربية تحت سيطرة وصايا تلك القوالب، وإذا كان الأمل معقودا على أجيالنا الجديدة- كما مر بنا- فلا بدَّ أن يقترن ذلك في التمسك بعوامل النهضة الحقيقية، متمثلةً بالأخذ بناصية العلم كطريق حيوي لا مناص منه في نفض غبار الانكسارات المخجلة، التي يعيشها العالم العربي اليوم، ولكي تقول الأجيال العربية الجديدة كلمتها في فضاء خريطة العالم، لا بد أن تكون المعرفة العلمية منطقها، ودليلها العملي التي تمكنه من فرض وجوده الحر في الخريطة الإنسانية
العالمية.