بين الواقعي والفنتازي يتحقّق التلّقي

ثقافة 2019/05/27
...

د. نجم عبدالله كاظم
من الصفحات الأولى، من مجموعة رغد السهيل القصصية “كُلُلّوش”، ينفتح علينا عالم يجمع ما بين الفنتازيا أو الخيال الجامح والواقع. فمع ما نلمحه من ميل مهيمن وواضح للقاصة إلى الفنتازيا تحديداً أو ما يقترب منها، فإنها لا تغادر الواقع ليحضر، حقيقةً أو دلالةً، في جلّ قصص المجموعة بدءاً بالقصة الثانية “كللوش”، وكما سيثبت في غالبية القصص، مثل “هامة حي (تدارك)” و”مواء العاشق”، و”حيوانات الوجوه”، و”اغتيال حقيبة”، و”ركلة قدم”. 
فقصة رغد السهيل حتى حين تجنح كلّياً- وكثيراً ما تفعل ذلك- نحو الخيال الحر أو الجامح والفنتازيا وربما السريالية واللامعقول والتغريب، فإنها غالباً ما تقنعنا، بمسحة الواقعي، بالحدث وببطله أو شخصياته، وضمن ذلك تتحقق الأُلفة مع موضوعاتها وعوالمها وأحداثها، والأهم شخصياتها. ولذا ليس غريباً أن نجد غالبية الأحداث تصطبغ بالمحلية وبالشخصيات ذوات الصبغة البغدادية أو العراقية، كما في قصص “حديقة جمعة اللامي”، و”كللوش”، و”اللعبة”، و”هامة حي (تدارك)”، و”نخلة أم الحارث”. ولهذا فحتى حين نأخذ على القاصة في بعض القصص فقط، أنها تنسى أو تكاد تنسى أحياناً الأرضية الواقعية، فتتجاوز بعض متطلبات الواقع، فإن هذا الواقع يحافظ على حضوره بشكل أو بآخر. 
    
جمع المتناقضات
يكمن وراء هذا الجمع ما بين الخيالية حد الفنتازيا أحياناً، والواقعية التي لا تكاد تغادرها، دلالةً على الأقل، كما قلنا، أن القاصة تمتلك القدرة على الجمع ما بين المتضادات في قصصها وشخصياتها وعوالمها. فيجتمع التقليد مع الحداثة والتحديث، والشخصيات المتخيّلة حد الغرائبي والتغريب مع الشخصية الواقعية التي نراها في حياتنا كل يوم، والثقافة والمثقف مع الشعبي والعادي، والغريب وغير الحاضر في يومنا مع المعيش واليومي. ونعتقد أن هذا هو أحد أكثر ما يمنح قصة رغد فنية وجمالية، خصوصاً حين تختلط كل ثنائية من هذه الثنائيات ببعضها، ولا تحضر فقط، كما الخيال الفنتازي بالواقعي الحقيقي المسحة.
    في قصة “مواء العاشق”، مثلاً، نُفاجأ بالشخصية شبيهة تحية كاريوكا، التي تعتدي على زوجها، تصير تحية كاريوكا فعلاً حين تقول الراوية عنها:
“كنت أفكّر حينها لماذا تُخفي تحية كاريوكا نفسها؟ وكيف لم يعرفها الضابط؟”- المجموعة، ص108.
ومع تواصل امتزاج الخيال الجامح بالواقعي، وقد يصير مربكاً بعض الشيء حين يصير الزوج هو الآخر فريد شوقي، فإن النهاية الجميلة للقصة، التي تزيل الإرباك، لا تكاد تُبطل ملاحظتنا حول الامتزاج بين الفنتازي والواقعي:
    “بعد أيام لمحت فريد شوقي بساقه المجبّرة يسير بعكازته، ويتوجه إلى مدخل بنايتنا. وعند عودة زوجي من رحلاته، طلبت منه تغيير مسكننا:
“- لماذا؟ هذه شقة رائعة يا حبيبتي؟
“- تحية كاريوكا هنا تصنع المشاكل.
“- نعم؟
“رويتْ له حكاية الفيلم الذي تابعَتْه.”- المجموعة، ص111.
    حين تخرج رغد من الفنتازيا، ومن الخيال الجامح، فإنها، ومع حضور بعض الواقعية، لا تذهب، إلا في النادر، إلى الواقعية صراحةً، بل هي، بدلاً من ذلك، تذهب إلى التغريب، كما في قصة “حيوانات الوجوه” المكتوبة بأسلوب خاص ترسم به صوراً تذكرنا بالسريالية في الفن التشكيلي، عوالمَ وأناساً غير طبيعيين وغير منطقيين وغير مقنعين إذا ما نظرنا إليهم من زاوية واقعية. ومن خلال ذلك كله تعبّر القصة عن دواخل في أوضاع نفسية غير عادية. هل تستطيع أن تحددها تماماً؟، ربما أحياناً، ولكنك لا تستطيع غالباً. أما قصة “التركة”، فهي مكتوبة أصلاً بأسلوب شبه تغريبي، ولكن مع بقاء الموضوع الواقعي وتحديداً المتعلق بالمرأة والعشائرية، مع أن ذلك أفقدها بعض الإقناع، خصوصاً أنها تقوم، في واقعيتها هذه، على قضية غير معروفة عندنا بل في ريف مصر، وهي القول بأنْ لا أرث للنساء. بينما تقدم قصة “ركلة قدم”، وكما قصص أخرى، فكرة غير عادية، وقد نقول غريبة: الشخصية من طفوتها تجد قدمين تخرجان من الأرض وتركلانها لتجعلها تركض، فكانت دائماً ما تركض أكثر منها تسير، حتى تقرر أن لا تخرج من البيت، ولكنها تعود، بعد حين، لتشتاق، وبشكل غريب ومثير، إلى المغامرة فتخرج، فتُفاجأ هذه المرة بتحول القدم الواحدة إلى عشرات.
    
طائر ابيض الريش
في قصة “هامة حي (تدارك) الفنتازية يحضر مرة أخرى الواقع العراقي، من خلال ظهور طير في سماء حي (تدارك) بثلاثمئة جناح على كل جهة وهو يصيح “اسقوني اسقوني”. فمع أنها رمزية لا تصرّح بشيء، فإنها تترك فينا إحساس، لا مهرب منه، بأن الأمر يتعلق أولاً بنُذر مصيبة أو كارثة يذوق مقدماتها فعلاً حي (تدارك)، الذي نفهم أن المقصود به الكرادة الشرقية في بغداد، لأن القصة مهداة إلى أهاليها الذين نعرف أنهم قد ذاقوا، على أرض الواقع، كارثة التفجير الكبير عام 2016 الذي أودى بحياة المئات من الضحايا. وواضح أن القاصة تستحضر هنا أسطورة الهامة العربية القديمة، “والهامّة نوع من أنواع البوم وطائر من طيور الليل يألف الأماكن المهجورة كالمقابر، وكانت العرب تزعم أنّ روح القتيل الذي لا يدرك ثأره تصير هامّة وتقف على قبره، وقيل: تخرج من رأسه، ولا تزال تصيح: اسقوني اسقوني، أي من دم قاتلي، فلا تكفّ عن الصياح حتى يؤخذ بثأر القتيل فإذا أدرك ثأره 
طارت.”
“فكلما ارتدى النور ثوب الظلام، افترش السماء طائر أبيض الريش (...) يطل برأسه الدائري ومنقاره الصغير
 المعقوف. 
عيناه الكبيرتان الدائريتان البارزتان، كأنهما خارجتان من جمجمته، وتنتصف خصلة من الريش فوق راسه، فيصيح حتى الفجر: اسقوني اسقوني فأنا صدية!
تعجب الأهالي، الطير يتكلم لغة الإنس لا منطق الطير. ظنوا أنه ظامئ، فوزّعوا أوانيَ صغيرة من الماء في كل مكان (...) ولم يتحرك الطائر من مكانه، لا يهبط ليشرب فيرتوي، ولا يطير فيرتاح من صياحه أهلُ الحي، ولا يصمت.”- المجموعة، ص63-64.
    تعلّقاً بـ(الغموض) وعدم التصريح في هذه القصة وفي قصص أخرى عديدة، من جميل ما نخرج به منها المتعة حتى حين لا تفهم كل ما ربما تريد أن تعبر عنه وتوصله إلى متلقين، وتحديداً حين تتعامل القاصة فيها بأنفاس فنتازية وسريالية ولا معقولة وتغريبية مع واقع حاضر، بشكل أو بآخر، فيها. هي أفكار غير عادية تُكتب بقلم غير عادي، لتكون القصة غير عادية، وفي النتيجة تترك تأثيرها غير العادي.