عين السحر .. المصوِّر

ثقافة 2019/05/27
...

زيد الشهيد
 
غذاء الذاكرة يأتي من طعام الفن ورهافة الروح لترسيخ تفاصيل وجه أو فحوى جسد أو تأثيثات مكان سيغدو من عِداد اللهفة المجنونة بلسان الحسرة في العودة إلى الوراء . لكنَّ الزمن لا يتكرر والتاريخ قطعاً لا يعيد نفسه . اللحظةُ تحتضر لتلدَ لحظةً مسلوخة من رحمها لكنها لا تشبهها حتماً . فقط الصورة تبقى حفراً على صوان الزمن . والقادم من تلافيف الحصار والحروب المتهالكة  لم يستكن لجاهزية الفقر ؛ لا ، ولا ارتضى الاعتماد على كدح الأب الذي وظّف بقايا الأيام لاحتضان العائلة خشية الفقد التي تلوّح به مقابض الضياع . حبّه للفن ، وعشقه لاستظهار الوجوه والقوامات وملامح الاماكن غلب على أهواء يفترض تناميها لمن بمثل سنّه . 
   لم يتكئ على جدار الهواء ، إنّما التجوال من ديدنه  . ما كان ملبياً لنداء الضياع ، إنّما خلَّف الطفولة وراءه واستدعى خزائن رجولة لم يحن رفلها بعد ؛ ليقول : ليس الفتى من قال أجلس هنا ؛ إنَّ الفتى من  نال عزم ذراعهِ . لهذا وجد أنَّ من واجب موهبته وهوايته أن تنال حصتها من التحليق الذي يعيشه في دروب الحياة .
   انطلق المصور يحمل على كاهله حفنةً من الأعوام قد لا تتعدى العشرين ، مصوراً يحمل آلته الصغيرة ليرسم ذاكرةً للمدينة بشوارعها وأحيائها وأنفاس الذين قضوا على أمل انتهاء وقت العسر بانتظار اليسر ، وما ظنّوا أن الحصار لم يكتفِ بنصف دزينة أعوام فاستطال عشراً ، وتجاوز المعهود  ، ثم لينتهي بحربٍ قادت إلى القتل العبثي والدم اليومي . انطلق المصور يبرمج ذاكرة المدينة بنصوص فوتغرافية وسط بهجة الذين لم يروا وجوههم من قبل . فاحتفى احدهم بفتوته ، وابتهج آخر لبدلةٍ يرتديها تُظهره بأحلى مشهد وأبهى كيان . وتحسّر آخر لأنّه ما ظنَّ أن سيصبح هكذا كبيراً بفعل تهافت الأعوام ولهاث الأيام التي سبقته إلى العمر غير المرغوب  . وحتى العجوز التي صرخت به يوماً أن لا يلتقط لها صورةً ودَّ أن يلتقطها ، مرددة : “ هذا فعل شيطان  “ وجدت في وجهها تفانين الزمن وغدره فبكت على جمالٍ ضاع، وعمر فقد ألقه .
   في حقيبة المصور تحتشد الوجوه وتنام على أمل حضور أصحابها الساهين أو الناسين أن كياناتهم تنتظر آن الانطلاق من عتمة جوف الحقيبة وخثرة الرائحة التي تحنط أنفاسهم المتخدرة .
عين الكاميرا السحرية تضحك وهي ترى جمعاً يودون تدوين قواماتهم على الورق اللميع فينتصبون بوقفات متكلفة تبعدهم عن بساطة كانوا يتحلّون بها قبل الوقوف أمام العين المتلصّصة التي ستمتص هياكلهم لتختزنها على “ نكتف “ كما الأشباح وتظهرها “ بوزتف “ بجمالية لونية ، مؤكداً سيضحكون لمشاهدة أنفسهم وقد بدوا أكثر اعتداداً وأكيس مظهراً ، وأوفى 
وقاراً . 
  لا تسأل حيّاً أو شارعاً ؛ مقهى أو منتدى ، جمعاً بشرياً أو فرادى إلا وعرف مصوّر المدينة مؤرخ جغرافيتها المتغيرة عبر العقود وكتيم أسرار محبيها خلف الآهات . وإذا افتقدته أو احتجتَ إليه لفسحةٍ من الوقت لا عليك سوى الوقوف عند رأس شارع لدقائق فإنّه سيبزغ  كما هلال ويطل مثل قمر ، ذلك أنّه جنَّد القدمين ليكونا واسطةً للانتقال وتلبيةً لصورة أرادها صاحبها هديةً لحبيبة أو مرسالاً لصديق غيبته المدن وأبعدته الأيام .
أعتى ما يؤلم الرسّام هو بعض الزبائن اللازبائن ؛ أولئك الذين يطلبون بشوق أن يلتقط لهم وقفةً وموقفاً ثم يتركون الدفع مؤجلاً . بعدها لن يراهم فيتأسى لأنهم لم يُصدِقوا الوعد فلا يدفعوا الحق الذي عليهم . وبطيبةٍ وسماح يبتسم قائلاً : كم أتمنى حضورهم ليتسلموها مجاناً . المهم أن لا يفقدوا هويةً سيتأسفون يوماً أنهم أضاعوها ولم يدفعوا نقوداً زهيدة لشراء ذكرى 
ثمينة .
الصورة نص الذاكرة ..  خطاب العمر الهارب .. 
الكاميرا آلة تدوين الزمن .. عين بلا ذاكرة ..
الرسام مؤرخ حيوات الآخرين .. مجهول لا تنصفه آلته بصورةٍ ولو من باب الوفاء .. ولو من نوع ألـ “ نكتف “  !!