حين يصبح الكل مصورين كيف غيّرت التقنيات فن الفوتوغراف؟

ثقافة 2024/03/13
...

 صفاء ذياب







لم تكن الصورة الفوتوغرافية وليدة العصر الحديث، بل إنَّ لها مرجعيات عدّة كان أوّلها على يد العالم العربي الحسن بن الهيثم الذي اعتمد على فكرة بؤبؤ العين وكيف يمكن أن ينتج الصورة بتجميع الضوء في مسارات عدّة. غير أنَّ هذه النظريات التي قدّمها ابن الهيثم بقيت ضمن تطبيقات محدّدة حتَّى بدأ علماء في القرن السابع عشر في التفكير لما توصّل له، وصولاً إلى اختراع العدسات المصنوعة بدقّة ما شجّع على استخدام حجرة التصوير المظلمة استخداماً آخر يتعلّق بتشكيل صور واقعية، كما ظهر إمكانية استخدام الفوانيس الملوّنة التي تُمكّن من عرض صور مرسومة على شرائح زجاجية على أسطح كبيرة.

ويقول تقرير نشره أحد المواقع العلمية، إنّه في العام 1727 استطاع العالم الألماني (يوهان أينريش) استخدام المواد الكيميائية الحسّاسة في إنتاج الصور الفوتوغرافية. وفي العام 1827 طبع العالم الفرنسي (نيسيفور نيبيس) أوّل صورة فوتوغرافية باستخدام ما سُمّي بالتصوير الشمسي (Heliography)، وكانت الصورة لمنظر من النافذة في “Le Gras”.

غير أنَّ العالمين لويس داجير والعالم نيسيفور نيبيس قرّرا التعاون في العام 1828 من أجل تحسين وتطوير تجارب التصوير والعمل على إجراء تجارب تساعد في تطوير عملية التصوير، بعدها في العام 1833م توفّي نيبيس بسكتة دماغية، وبعد عدّة سنوات من البحث والتجربة استطاع داجير تطوير طريقة أكثر فاعلية للتصوير الفوتوغرافي وسمّيت باسمه (العملية الداجيرية Daguerreotype) في التصوير، في هذه العملية تُثبّت الصورة على ورقة من النحاس المطلي بالفضّة المصقولة والمطلية باليود من أجل خلق سطح حسّاس للضوء، ثمَّ وضع اللوح في الكاميرا وكشفها لبضعة دقائق، وبعد رسم الصورة بالضوء، تُنقع في محلول كلوريد الفضّة؛ حتّى لا تتغيّر الصورة فيما بعد بتعرّضها للضوء وجعلها صورة دائمة.

كان للويس داجير دور كبير في تاريخ اختراع التصوير الفوتوغرافي، بل يعدُّ من اخترعه هو، وبحلول العام 1850 أصبحت طريقة لويس داجير في التصوير هي الأكثر انتشاراً وشعبية في أوروبا، وانتشرت استوديوهات التصوير التي اعتمدت في عملها على هذه التقنية التي شكّلت انتقالة حقيقية في التصوير الفوتوغرافي في ذلك الحين.

ربّما يصعب تحديد العام التي تم اختراع التصوير الفوتوغرافي بالضبط، بعد عدّة محاولات من قبل علماء كثر، غير أنَّ اختراع الكاميرا، كآلة تلتقط الصور بتقنيات جديدة كان بين عامي 1816 و1885، فالفضل الأول لاختراع الكاميرا يعود إلى المخترع Joseph Nicéphore Niépce؛ جوزيف نيسبور نيبيس،  في العام 1816، وهذا بسبب التقاطه لأول صورة فوتوغرافية بتجربة قام بها، وهذا السبب الذي جعل اسم نييس مرتبطاً باختراع الكاميرا أو التصوير، ولكن هذا لا ينسب إليه الفضل كاملاً بالطبع، لأنَّه وبالرجوع إلى العام 1685، اخترع يوهان زان؛ Johann Zahn، أول تصميم للكاميرا الانعكاسية المحمولة.

نتذكر عام 1829م عندما نجح لويس داجير في تطوير التصوير الفوتوغرافي العملي، وقد باع هذه التكنولوجيا للحكومة الفرنسية. وفي العام 1840 اخترع ألكسندر وولكوت الكاميرا الأولى التي تلتقط صوراً لا تتلاشى ويمكن الاحتفاظ بها، وإليه يعود الفضل في اختراع الكاميرا بوظيفتها الحالية.

ما الفوتوغراف؟

يشير الباحث وسام السيد إلى أن التصوير الفوتوغرافي يستخدم لغة العناصر المرئية، بدلاً من الكلمات، لذلك يمكن استخدامه لأغراض فنّية أو أغراض أخرى، ويخدم التصوير الفوتوغرافي غرضه المزدوج من دون أي تناقض. وما يميّز الفنان الحقيقي هو امتلاكه رسالة يسعى لتوصيلها، وقدرة المشاهد على تفسير الصورة تمنح الفنان حرّية طرح الأسئلة بدلاً من تقديم الإجابات، وهو مثل أي شكل من أشكال الفن المرئي يستغل نقاط ضعف الإدراك البصري للإنسان، ويمكن أن يجعلنا نشعر بالتعاطف أو الكره.

كلمة الفوتوغراف بحدِّ ذاتها اشتُقِّت من الكلمة اليونانية التي تمزج بين كلمة (Photos)  التي تعني الضوء، وكلمة(Graphien)  التي تعني الرسم، هذه الكلمة استُخدمت للمرّة الأولى في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، ويعود الفضل في صياغة اسم التصوير الفوتوغرافي إلى عالم الرياضيات والفلكي الإنجليزي السير جون فريدريك ويليام هيرشيل في العام 1839.

وبعيداً عن تاريخ هذا الفن، فقد كان التصوير الفوتوغرافي منذ بداياته في القرن التاسع عشر منحصراً بالفنانين الذين تمرّسوا عليه، وأصبحت لهم بصمة واضحة، عالمياً وعربياً، ولنا في العراق نماذج مهمة مثل ناظم رمزي ولطفي العاني وغيرهما الكثير… غير أنَّ ما حدث بعد تطوّر كاميرا الموبايل جعل من الجميع فوتوغرافيين، حتَّى بدأ الطارئون يهددون وجود الفوتوغراف كفن قائم بذاته، وله أساتذته ورواده… فما الذي أثّر فيه دخول هذه التقنيات على هذا الفن؟ وكيف يمكن التمييز الآن بين الفوتوغرافي الفنان، ومن دخل إلى هذا العالم من جانب التقنيات الجديدة؟

لغة مرئيّة

يشير الفنان الفوتوغرافي الدكتور أكرم جرجيس إلى أن الفنون بمختلف تجليّاتها وأشكالها تعدُّ منبراً للتعبير الإبداعي وتجسيداً للجمال بأشكاله المتعددة، ومن بين هذه الفنون يأتي الفوتوغراف كوسيلة فعّالة وقويّة للتعبير وتوثيق الواقع بطريقة مبتكرة وجذّابة.

ويستمر الجدل حول كنه الفوتوغراف، فهناك من يرى بأنَّه محاكاة حرفية للواقع تؤدّي الكاميرا فيه دوراً نفعياً فحسب، ومنهم من يرى بأنَّه فن يتطلّب براعةً في تحويل الواقع إلى شفراتٍ ورموزٍ مختلفة المعاني والدلالات تحتاج إلى مفسرة حسب (بيرس)، ويمكن الجمع بين الرأيين لنقول بأنَّه فنٌ ذاتيٌ، وهو لغة مرئية يوظّفها الفنان لمختلف رغباته وطموحاته ليؤدّي نفعاً ما في مجالات شتَّى، تؤدّي دوراً مزدوجاً دوناً عن الفنون البصرية الأخرى.

ويضيف جرجيس: إنَّ الذي يميّز الفوتوغرافي الفنّان عن غيره هو امتلاكه للخيال والحس الإبداعي، الذي يحوّل الفكرة الفوتوغرافية إلى رسالة إبداعية موجّهة، فضلاً عن المهارات العالية في استخدام الأسس الفوتوغرافية كمحدّدات التكوين وبنائية العناصر البصرية المكوّنة للمشهد المرئي، كالأشكال والألوان فضلاً عن القدرة على تقدير الجمال أينما وجد، وبذلك يسهم التصوير الفوتوغرافي في إثراء التجارب الفنية وإلهام الفنانين والمتلقين على حدٍّ سواء ما يجعله جزءاً أساسياً من المشهد الفني المعاصر.

الفنّان واللقّاط

ويقول الفوتوغرافي والمؤرشف الفني خليل الطيار: إنَّنا بدءاً علينا أن نفرّق بين مهمّة الشخص “اللقّاط”، أيّاً كانت أداته، سواء بالكاميرا، أو بالموبايل، وبين المصوّر “المرئي” المنتج للأفعال البَصرية المقروءة وليست المشاهدة بالعين. فالصورة “المرئية” لا تكتفي بهدف مشاهدة ماديّتها، بل بقراءة بُعدها المرئي، وهو ما يشكّل روح “الفوتوغرافيا”.

فالكاميرا أو الموبايل ما هي إلَّا وسائل حبس للضوء، والذي يحملها يسمّى “لقاط”، أمَّا من يصنع الصورة بفاعلية جمالياتها فهو المصوّر “المرئي” الذي يحوّل “أشياء” الواقع إلى واقع جديد تدخل مخرجاتها البَصرية جنس “السرديات”، فالتصوير تجاوز حالة التوثيق الذي يقوم به “الملتقط” سواء كان هاوياً أو محترفاً، في حين أنَّ روح التصوير تكمن بفهم خواص وجماليات وفلسفة التصوير بوصفه جنساً أدبيّاً يكتب نصوصه بالضوء.

مضيفاً: إذا فهمنا هذه المعادلة فلا يخشى على “الفوتوغرافيا” من أيِّ طارئ عليه، سواء كانوا الطفيليين أوغيرهم ولا خشية من التقنيات التي سهّلت مهمّة إنتاج الصورة.

“الفوتوغراف” في العراق شهد قفزة تحوّلات في مضماره على مستوى الكم والنوع في عملية الإنتاج الجمالي لألوان الصورة الفوتوغرافية كلّها وأشكالها، عزّزتها تعضيد وملاحقة نقدية ساهم فيها مجموعة نقّاد كتبوا في منهجية النقد الفوتوغرافي وأسهموا في تنمية ثقافة الفوتوغراف في العراق وتجاوزوا به حدوده المحلّية وسجّلوا علاماتهم في المشهد الفوتوغرافي العربي والعالمي... وهناك أسماء لمصوّرين ونقّاد عراقيين يتصدّرون المشهد الفوتوغرافي العربي والعالمي بقوّة اليوم.

إلهام المتلقّي

من جهته يؤكّد الفنان الفوتوغرافي زين العابدين الزبيدي أنَّ تحدّي التمييز بين فن التصوير الفوتوغرافي والتصوير العادي بواسطة الهواتف المحمولة موضوع يستحق النقاش، فمنذ تطوّر التكنولوجيا وتوفّر الكاميرات في الهواتف الذكية، أصبح التصوير أكثر إمكانية وتوفراً للجميع. لكنَّ هذا التوفّر لم يُحسّن فقط إمكانية التقاط الصور، بل زاد من تحدّيات الفنانين والمصوّرين الذين يحاولون الحفاظ على تميزهم.

التصوير الفوتوغرافي كفنٍّ يعتمد على الرؤية الفنية، والتقنية، والقدرة على التواصل بين الصورة والمشاهد والمشاعر. يحتاج المصور الفنان إلى فهم عميق للضوء والظل والتكوين والقصة المراد إيصالها من خلال الصورة.

بالمقابل، التصوير بواسطة الهواتف الذكية يمكن أن يكون سريعاً وعفويّاً، ويعكس لحظات الحياة اليومية بشكل طبيعي. ومع ذلك، فإنَّه لا يتطلّب المستوى نفسه من الدراية التقنية أو الإبداع الفني كما يتطلّبه التصوير الفوتوغرافي.

موضحاً أنَّ التمييز بين الفنانين والهواة في عالم التصوير يعتمد على القدرة على إظهار التفرّد والتعبير الشخصي، وقدرة المصوّر على نقل رسالة فنّية أو قصّة معيّنة من خلال صوره. الفنّان يسعى لخلق تأثير فنّي وإلهام المشاهدين، في حين يركّز الهواة عادة على التقاط لحظات وتوثيقها من دون التفكير في العمق الفني.

بالتالي، يبقى التمييز بين الفوتوغرافيين الفنّانين والهواة تحدّياً، يعتمد على التفرّد والتعبير والمهارة التقنيّة، وقدرة الفنان الفوتوغرافي على إيصال رسالة فنّية مميّزة.

فضاء يتسع

الفنان الفوتوغرافي إحسان الجيزاني؛ المقيم في ألمانيا، يختتم حديثنا مبيناً أنَّ فن التصوير تاريخياً بدأ قبل اختراع الكاميرا، ويعتقد البعض أنَّ الصورة المثالية مقرونة بعملية شراء أحدث كاميرا، وهذا أمر خاطئ، لأنَّ المصور الذي يقف خلف الكاميرا يأخذ الصورة في حيازة رؤيته وخبرته وجمالياته، وكلّ زمن له روّاده الذين يسجّلون بصماتهم في صورهم، ولا يمكن أن نقارن بين مصوّرين من أزمنة مختلفة، لأنَّ أيَّ تمييز أو مقارنة هما عملية احتكار، وهو توظيف لشخصيات على حساب موهوبين آخرين، وهذا يؤدي إلى عملية هدم، وليس إلى عملية بناء الثقافة الصورية التي نودُّ أن تكبر وتنتشر لكي تأخذ مساحتها في الوطن العربي بالأخص. فمساحة ثقافة الصورة اليوم في الوطن العربي صغيرة، وعملية تسليط الضوء على بعض تلك الأسماء تؤدّي إلى تجاهل مساحة موهوبين آخرين، وهذه كارثة. والفن فضاؤه واسع يتسع للجميع حّتى إلى الطارئين لأنهم أيضاً فرع لا يمكن تجاهله في زمننا هذا كفنٍّ حديث. وواجبنا اليوم هو دعم وتوجيه الشباب ومحبي الصورة لتوسيع رقعة مساحة ثقافة الصورة، لكي تستمر ويستمر الدعم والمساندة للأجيال اللاحقة.