المصريون يشترون الذهب ويبيعونه فقط من أجل البقاء

بانوراما 2024/03/13
...

 فيفيان يي وندى رشوان

 ترجمة: بهاء سلمان

لأجل إعداد هذا المقال، أمضى المراسلون بعض الوقت مع بائعي وزبائن الذهب في سوق خان الخليلي وسط مدينة القاهرة عاصمة مصر. داخل المتجر ذي الألواح الخشبية ضمن متاجر سوق خان الخليلي الشهير بالقاهرة، كان سعر الذهب يتراجع بسرعة، وكانت رانيا حسين تشعر بالمستقبل ينزلق من بين أصابعها.

شاهدت هي ووالدتها تاجر الذهب وهو يزن القلادة والأساور الثلاثة التي أحضرتاها، (وهي مجوهرات إشترتها رانيا لأمها كهدية قبل خمس سنوات ولكنهما الآن بحاجة لبيعها)، حيث كان شقيقها مقبلا على الزواج، وهو مشروع مكلف ماديا حتى في الأوقات العادية، لكن الأزمة الاقتصادية والتضخم المتزايد الذي عصف بمصر لأكثر من عامين لم يتركا للأسرة أي خيار.

وصلت سنوات من الإنفاق المتهوّر وسوء الإدارة الاقتصادية إلى ذروتها بحلول العام 2022، عندما ساعدت الحرب الروسية الأوكرانية على إغراق مصر وسط دوامة أزمة مالية؛ ولم تؤد الحرب على غزة إلا إلى تعميق 

الأضرار. 

وتقول رانيا إن الأزمة أدت إلى ارتفاع أسعار البيض في محال البقالة، فضلا عن الأثاث الجديد الذي يتعيّن على شقيقها، تقليديا، شراؤه لتجهيز منزل الزوجية؛ كما تسببت الأزمة بإغلاق رانيا لعملها في مجال تصميم الملابس وقضت على ثلاثة أرباع قيمة راتب شقيقها كمحاسب.

فضلا عن ذلك، هناك أثر جانبي غريب حيث إنهت الأزمة ذلك الهدوء الذي يزين المتاجر الهادئة عادة في خان الخليلي المختصة بالمجوهرات والسبائك الذهبية، مع لافتاتها القديمة ذات الحروف المتعرّجة وأصوات التلاوات القرآنية التي تتدفق بلا توقف من مكبرات الصوت الصغيرة. 

فخلال العامين الماضيين، فقد المضاربون الذين يشترون الذهب هدوءهم ونزلوا إلى السوق، حيث أدى انهيار العملة المصرية إلى زيادة الطلب على الذهب كملاذ آمن من الاضطرابات المتواصلة.

ومع أن سعر المعدن الأصفر ارتفع بشكل عام على الرغم من التراجع في بعض الأحيان، فإن قيمته قد تباينت جنبا إلى جنب مع الطلب، اعتمادا على تقلبات الأخبار الاقتصادية اليومية، وهو التقلّب الذي حيّر المستهلكين والتجار على حد سواء. 

وفي اليوم الذي زارت فيه رانيا السوق، كان سعر الذهب ينخفض بسرعة، بسبب الأخبار التي تفيد بأن مصر ربما تكون قد وجدت شريان حياة لإنقاذها مما بدا، حتى ذلك الحين، وكأنه خراب مالي وشيك. 

وأبرمت مصر أواخر شهر شباط الماضي صفقة بقيمة 35 مليار دولار مع دولة الإمارات، لتطوير مدينة جديدة ووجهة سياحية على ساحل البحر الأبيض المتوسط في مصر. 

وفي غضون ساعات من إعلان الصفقة، ارتفعت قيمة الجنيه المصري، وانخفضت قيمة الدولار في السوق السوداء، وإنخفضت معها أسعار الذهب.


مخاوفُ اقتصاديَّة

ويقول المحللون إنه إذا تم توفير الأموال الإماراتية كما تعد الصفقة بذلك، فإن الأموال النقدية، إلى جانب اتفاقية الإنقاذ الجديدة المتوقع إبرامها مع صندوق النقد الدولي في غضون أسابيع، ستساعد مصر على استقرار اقتصادها. وسيساعد ذلك البلاد على تجنّب التخلّف عن سداد الديون، ودفع ثمن الواردات المتراكمة اللازمة وتقويض السوق السوداء بالدولار الناتجة عن نقص العملات الأجنبية.

لكن المشهد بالنسبة للمصريين، لا يعني أكثر من أن الضرر قد وقع وانتهى بها الحال إلى ما هي عليه. وبينما كان الموظفون يشاهدون قيمة رواتبهم ومدخّراتهم تتبخر على مدى العامين الماضيين، قلل الفقراء من الطعام، وسحبت الطبقة الوسطى أطفالها من المدارس الجيّدة إلى مدارس أرخص أو مجانية، وحتى من هم بمستوى أفضل، لم يذهبوا لقضاء أيام العطلة أو تناول الطعام خارج المنازل، وإنحدر ملايين الناس بإتجاه الفقر.

وتعلّق رانيا أثناء جلوسها في محل الصياغة عن إنخفاض سعر الذهب، موضحة سبب قرارها بالبيع: "ليس مضمونا أن يرتفع، وأخشى أن ينخفض مرة أخرى. أسعار الأثاث ينبغي أن تنخفض، ولكننا لم نشهد ذلك بعد."

تنهدت وأضافت: "كل شيء عبارة عن اضحوكة." لقد حوّلت الاضطرابات في المنطقة الكثير من الناس إلى مضاربين مترددين، وحوصرت حياتهم بالشكوك والشائعات. أصبح التحقق من سعر الدولار في السوق السوداء أمرا شائعا مثل التحقق من توقعات الطقس. على الورق، كانت رانيا ستجمع من أجل المجوهرات أكثر مما دفعته مقابلها قبل خمس سنوات، ولكن عامين من التضخّم المتفشي وإنخفاض قيمة الجنيه أمور من شأنها أن تلغي أي مكاسب. ويتم تحديد أسعار العديد من السلع الآن على أساس قيمة الدولار في السوق السوداء، والتي ارتفعت إلى نحو 70 جنيها للدولار الشهر الماضي، مقارنة بنحو 16 جنيها قبل الأزمة. وتقول تمريهان عبد الهادي، والدة رانيا: "حتى باعة الخضار يشعرون بالقلق بشأن سعر الدولار، فالجميع يسعّر بضاعته بالعملة الصعبة."


ضائقةٌ غير مسبوقة

كانت الأسرة قد باعت بالفعل أحد خواتم السيدة تمريهان عبد الهادي الذهبية لشراء الخواتم الثلاثة الجديدة التي تقدّمها عائلة العريس تقليديا للعروس المصرية، ولا تزال هناك متطلبات توفير شقة الزوجين لتدبير شرائها. "تكاليف الأثاث باهظة الثمن للغاية؛ غرفة المعيشة على سبيل المثال. هذا لن يكون كافيا لذلك، لكنه سيذهب إلى المدّخرات،" تقول رانيا.

منذ أوائل العام 2022، أدى النقص الشديد في العملات الأجنبية الناجم عن الحرب الروسية الأوكرانية وعبء الديون الثقيل في مصر إلى ارتفاع التضخم إلى مستويات قياسية وانخفاض قيمة العملة المحلية إلى مستويات قياسية.

وتسببت الحرب على غزة في تعميق الأزمة، مما يهدد السياحة، وهي مصدر رئيسي للعملة الأجنبية، وخفض إيرادات مصر بالدولار من قناة السويس إلى النصف، حيث تواصل جماعة الحوثي هجماتها على السفن في البحر الأحمر. وتستورد مصر النفط والقمح والعديد من السلع الأخرى التي يتعيّن عليها دفع ثمنها بالدولار. وقد أدى ذلك إلى جعل عملة الولايات المتحدة لا غنى عنها ونادرة، الأمر الذي أدى إلى خلق سوق سوداء ضبابية حيث تتجاوز قيمة الدولار بكثير سعر الصرف الرسمي الذي حددته الحكومة على نحو مصطنع بنحو 31 جنيها للدولار.

ولأجل البحث عن موانئ مالية آمنة، بدأ المصريون الذين لديهم مدّخرات في استثمار الذهب والعقارات والسيارات، أي شيء إعتقدوا أنّه سيحمل قيمته أفضل من الجنيه المصري المتعثّر. ويقول سعيد إمبابي، مؤسس منصة( آي صاغة- iSagha) لتداول الذهب، إن المصريين يشترون المجوهرات الذهبية تقليديا كاستراتيجية إدّخار طويلة الأجل، لكن المضاربين يتجهون الآن إلى العملات المعدنية والسبائك لمحاولة تحقيق ربح سريع.


أفقٌ بلا حلول

تضاعف الطلب على الذهب، مما أدى إلى إرتفاع الأسعار، لترتفع أسعار السوق بشكل محموم، لدرجة أن الحكومة أعلنت في تشرين الثاني أنها دخلت في شراكة مع شركة تكنولوجيا مالية، لتركيب أجهزة صراف آلي توزّع سبائك الذهب بدلا من النقد.

وتقول نرمين نزار، 52 عاما، وهي مترجمة تقيم في القاهرة: قبل "أن تبدأ قيمة الجنيه في الإنخفاض، لم أفكر أبدا في الذهب، ولا حتى المجوهرات. لكن تحت ظل هذا الذعر، كنت بحاجة إلى أي شيء يمكنني الحصول عليه لحماية قيمة ما أملكه من مال." قامت نرمين باستثمار مدّخراتها في عملة ذهبية واحدة خلال شهر أيلول من العام الماضي، وارتفعت قيمتها مقابل الجنيه بنسبة ثلاثين بالمئة، على الرغم من أن التضخّم سيخفض القوة الشرائية للربح إذا بيعت الآن.

وأحدثت المضاربات دمارا كبيرا في سوق الذهب في خان الخليلي، حيث واجه أصحاب المتاجر أسعارا متقلّبة باستمرار للمواد الخام التي يشترونها لتحويلها إلى خواتم وقلائد وأقراط، ليتوقف الكثيرون عن البيع بشكل تام. يقول أمير صلاح، صاحب محل صغير للمصوغات الذهبية: "لا أستطيع العمل، لأنه ليس لدي سعر ثابت لأبيع به. أنا لا أفهم حتى الكثير مما يدور حاليا."

والآن تجتاح السوق حالة جديدة من عدم اليقين، رغم أنها مشوّبة بالتفاؤل. وكان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قد أعلن قبل عدة أيام أن دولة الإمارات، الحليف السياسي منذ فترة طويلة والراعي المالي للرئيس المصري، قد بدأت بالفعل في تحويل مليارات الدولارات إلى مصر من أجل صفقة التنمية. ويبدو أن الرئيس، الذي كان حتى بداية الحرب على غزة يفقد الدعم الشعبي، قد حصل على مهلة.


عبور الأزمة بسلام

وقال ناصر بدوي، صاحب مركز تجارة السبائك في خان الخليلي، الذي يبيع مصاصات صغيرة من الذهب الخالص وزجاجات الأطفال كهدايا للأطفال حديثي الولادة، إلى جانب السبائك العادية التي قال إنها أصبحت استثمارات شعبية العام الماضي: "إنه أمر مطمئن، فأي شيء يجلب لي الأموال ويساعدني على تجاوز هذه الأزمة، لماذا لا أتعامل معه؟"

وبالمثل، أصبح منع اقتصاد الدولة الأكثر اكتظاظا بالسكان في الشرق الأوسط من الانهيار أمرا ملحا جديدا بالنسبة لشركاء مصر الغربيين وسط الحرب على غزة. وأعلن صندوق النقد الدولي بأنه يعمل على زيادة القرض المتفق عليه مسبقا بقيمة ثلاثة مليارات دولار في غضون أسابيع، ومن المتوقّع أن يصل إجمالي المبلغ إلى نحو ثمانية مليارات دولار، وفقا لخمسة دبلوماسيين في القاهرة تسنى لهم الإطّلاع على المحادثات الجارية بين الطرفين.

لكن لم تتوفر سوى تفاصيل قليلة عن الصفقة الاماراتية. وقال محللون إن هذه الأموال ستمنع التخلّف عن السداد، لكن مصر تخاطر بأزمة أخرى إذا لم تقم بإصلاحات ذات أثر واضح لخفض الإنفاق وجذب المزيد من الاستثمارات الخاصة وإنتاج المزيد من الصادرات والحد من هيمنة الجيش على الإقتصاد.

قبل الصفقة، أجبرت الضغوط الاقتصادية المتزايدة الحكومة المصرية على إجراء بعض التغييرات، بما في ذلك تجميد بعض المشاريع الضخمة المكلفة التي أمر بها رئيس الجمهورية، والتي راكمت الديون العامة للبلاد، من بينها عاصمة جديدة مبهرة من المؤمل أن ينتهي بناؤها في الصحراء.

لكن مصر لديها الآن حافز أقل لتغيير المسار. يقول طارق توفيق، رئيس مجموعة القاهرة للدواجن ورئيس غرفة التجارة الأميركية المصرية، إن الصفقة "ستغيّر قواعد اللعبة، ويبقى السؤال المهم هو كيف سيتم توظيف الأموال؟"

صحيفة نيويورك تايمز الاميركية