رثاء فلسطيني لمدينة صارت انقاضا

بانوراما 2024/03/14
...

 كامل أحمد
 ترجمة: مي اسماعيل

تحول أكثر من مئتي مبنى ثقافي وذي أهمية تاريخية إلى أنقاض في غزة؛ ومنها جوامع ومقابر ومتاحف. يمكن القول إن الجامع العمري في غزة ما زال قائما؛ لكن جدرانه منهارة ومئذنته قطعت.. وتضاءل إلى حد كبير. وحوله أيضا باتت المدينة القديمة كومة من الانقاض. يعود تاريخ الجامع إلى القرن السابع عشر، ويعرف أيضا بالجامع الكبير في غزة، وهو أشهر جوامع المدينة، وشكلت المناطق المحيطة به نقطة محورية في تاريخ وثقافة القطاع الفلسطيني. لكن الاضرار التي لحقت بتلك المنطقة التاريخية خلال بضعة أشهر من القصف الاسرائيلي يمتد ايضا إلى باقي أجزاء المدينة.

مدينة أشباح!
بالنسبة للقلة القليلة من الفلسطينيين الباقين في المنطقة، والأعداد الأكبر بكثير من النازحين الذين يأملون بالعودة؛ تحول التاريخ والثقافة الفلسطينية إلى ذكريات.
يقول “بدر الزهارنة” الذي يعيش في مدينة غزّة رغم العملية العسكرية الاسرائيلية البرية هناك: “المكان أصبح مدينة أشباح، والناس يتحركون هنا وهناك بوجوه شاحبة ونفوسٍ مُتعَبة بعدما مرّوا به خلال هذه الحرب.
واذا تجولتَ خلال المدينة القديمة فلن ترافقك سوى الذكريات وتشعر بالحسرة والحزن على كمية الدمار التي لحقت بالمباني الثقافية والدينية.
أ صبحت غزّة القديمة؛ التي كانت تحفل بالمواقع الثقافية؛ رمادية ومعتمة.
يشعر الماشي عبر غزّة كأنه في فيلم سينمائي أو قصة خيالية.. والمشهد مروّع.”. تقول اليونيسكو؛ منظمة الامم المتحدة المسؤولة عن حماية الثقافة، أنها تحققت من الأضرار التي لحقت بنحو 22 موقعا على الأقل؛ منها مساجد وكنائس ومنازل تاريخية وجامعات وارشيفات، وموقع ميناء “أنثيدون-Anthedon” الأثري؛ أول ميناء بحري معروف في غزّة. وقالت المنظمة انها تلقت تقارير عن الأضرار في مواقع اخرى؛ لكنها لم تتمكن من التحقُّق منها بالوسائل المُتاحة (وتعني غالبا الاستعانة بصور الأقمار الصناعية)؛ بسبب استمرار
الصراع.  
خراب المدينة القديمة
جاء في تقرير لوزارة الثقافة الفلسطينية حول تدمير اسرائيل للتراث الفلسطيني ان قصف غزّة هدم 207 مبنى ذا أهمية ثقافية أو تاريخية؛ بضمنها 144 مبنى في المدينة القديمة و25 موقعا دينيا. شمل الدمار أيضا مقبرة رومانية أثرية ومقبرة حرب الكومنويلث؛ حيث يرقد نحو ثلاثة آلاف جندي بريطاني ومن دول الكومنويلث سقطوا خلال معارك الحربين العالميتين. وحذرت اليونيسكو أن المزيد من المواقع تواجه خطر التدمير؛ منها أحد أقدم الاديرة المسيحية بالمنطقة: مُجمّع دير “سانت هيلاريون-Saint Hilarion “ الذي لم يكن قد أصابه الضرر (وقت كتابة المقال) لكنه يقع ضمن منطقة قتال عنيف. وقالت المنظمة: “تشعر اليونيسكو بالقلق الشديد حول الأضرار بالمواقع الثقافية والتاريخية في غزّة. وبينما تشكل حالات الطوارئ الإنسانية أولوية مشروعة؛ فإن حماية التراث الثقافي بجميع أشكاله، اضافة لحماية البنية التحتية للتعليم والصحفيين، يجب ضمانها أيضا وفقا للقانون الدولي؛ الذي ينص على أن الممتلكات الثقافية هي بنية تحتية مدنية”.

حزن الذكريات
يقول “وسام ناصر”؛ المصور الفوتوغرافي، الذي غطى عدة حروب في غزّة لكنه قام أيضا بتوثيق تراثها الثقافي، أن الاضرار التي أصابت الجامع العُمري ومُحيطه تسبب له شخصيا بالأذى بسبب الوقت الذي أمضاهُ هناك: “يحتلُ هذا الجامع موقعا خاصا لدى كل فلسطيني في غزّة؛ لأنه موقع التجمُع خلال شهر رمضان، وموقع للعبادة وتلاوة القرآن. وله مكانة خاصة عندي بصفتي مصورا؛ إذ قمتُ بإلتقاط وتوثيق العديد من اللحظات والذكريات داخل هذا الجامع”.  يستذكر ناصر (الذي يعيش الآن في كندا) زيارته للمدينة القديمة؛ ومن ضمنها- الحمامات التركية التي باتت مهدمة الآن؛ بصفته مصورا وفي حياته الشخصية. إن الدمار الذي أصاب المواقع المسيحية، ومنها مجمع كنيسة “القديس بروفيريوس- Saint Porphyrius “ الأرثوذكسية الواقع قرب الجامع العُمري، قد أضرَّ أيضا بالتنوع في غزّة، قائلا: “بصفتي مصورا فوتوغرافيا سأحملُ طيلة حياتي حزنا لأن تلك المباني التاريخية يصعب ترميمها، ولأن خسارتها لا تُعوّض.. سأتذكرها كل دقيقة كما نتذكر آلاف الذكريات عن تلك الأماكن. لكنني سأشعر بحزنٍ أكبر عندما أنظر إلى الصور التي التقطتُها داخل تلك المواقع الأثرية. لسوء الحظ دمّرت اسرائيل كل شيئ جميل في غزّة، ولم تكن تهدف إلى تدمير البشر فحسب؛ بل الحجر والبنية التحتية والمباني التاريخية؛ رغبة في إبادة الحياة البشرية والتراث الثقافي”.

فصل البشر عن تراثهم
تضمنت الدعوى التي أقامتها دولة جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي (والتي إتهمت بموجبها إسرائيل بالابادة الجماعية، مما دفع المحكمة إلى إصدار أمر لإسرائيل بمنع قواتها من تنفيذ أعمال يمكن أن ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية) ادعاءات بأن إسرائيل استهدفت الثقافة الفلسطينية. كما إتهمت القضية اسرائيل بتدمير المتاحف الحديثة والمراكز الثقافية، وانها تهدد “الإمكانات الثقافية” في غزّة عبر تدمير المدارس؛ إضافة إلى قتل الصحفيين والمدرسين والمثقفين. يؤكد “إسبر صابرين” رئيس منظمة “التراث من أجل السلام” غير الحكومية، أن الضرر الذي لحق بتراث غزّة سيكون دائميا ويصل إلى ما هو أبعد من الكيان المادي للمباني. وأن ما لحق بالمواقع الدينية سيؤثر على الحياة الاجتماعية للمسلمين والمسيحيين، وسيتطلب وقتا طويلا لإعادة التأهيل؛ قائلا: “تدمير تراث غزّة هو أيضا تدمير للتقاليد وتدمير لعادات الناس وثقافتهم.. انه تدمير هائل للتراث كي يجري فصل سكان غزّة عن أرضهم عمدا؛ ومن المهم القيام بالحفاظ عليه واستعادته. وعندما تتوقف الحرب سوف تكون هناك حاجة لتقييم ما جرى تدميره”.  

الاوبزرفر البريطانية