سام جونز
 ترجمة: أنيس الصفار

قبل عام من يومنا او نحو ذلك كانت {فيديريكا جايغانتي} تعد محاضرة وتفتش في الانترنت بحثاً عن صورة للنبيل وجامع التحف الإيطالي {لوديفيكو موسكاردو} الذي ينتمي إلى القرن السابع عشر عندما انجذب نظرها إلى صورة اخرى مختلفة كل الاختلاف. الصورة التي استوقفت المؤرخة كانت لقرص معدني تعلوه حلقة ومحفوظ في متحف فيرونا نفسه؛ حيث صورة موسكاردو.

ادركت جايغانتي على الفور أنها أمام صورة إسطرلاب – وهو جهاز كان يستخدم في الماضي لرسم خارطة للنجوم ومعرفة الوقت، كما أدركت إنه إسطرلاب فريد من نوعه، غير إنها لم تتصور مدى تميزه إلا عندما شدت الرحال إلى “مؤسسة متحف مينيسكالتشي-إريزو” بعد ذلك بثلاثة أشهر ونظرت إليه والضوء يتدفق عليه من النافذة ليضيء معالم تلك الأداة النحاسية.
تقول جايغانتي: “ميزت بسرعة أنه أقدم بكثير مما حسبت، ولكني في تلك المرحلة لم تكن عندي فكرة بأنه يحمل إشارات باللغة العبرية عليه. لم الحظ وجود تلك الخدوش إلا بعد أن حملناه إلى غرفة جانبية وبدأنا بتحليله – وشاءت الصدفة أن أتخذ مقعدي قرب نافذة يتدفق منها ضوء غامر. رأيت خدوشاً غريبة ليست كتلك التي تحدث جراء الاستعمال كما قد يتراءى للمرء، اعتقدت انني ربما كنت متعبة بعض الشيء، ولكن المزيد منها بقي يظهر لي.” فقد وقعت هذه الباحثة ضمن قسم التاريخ بجامعة كامبردج وأمينة الأجهزة العلمية الاسلامية لدى متحف تاريخ العلوم التابع لجامعة أوكسفورد، على اسطرلاب فريد مميز تداولته ايدي المسلمين والمسيحيين واليهود في اسبانيا وشمال افريقيا وايطاليا على مدى القرون العشرة التي أعقبت صنعه خلال عصر دولة الاندلس. فالنقوش التي يحملها، وهي مكتوبة بالخط العربي أولاً ثم بالعبرية، تحكي قصة المعرفة.. كيف خلقت وكيف تشاطرها وطورها علماء مسلمون ويهود كانوا يعيشون ويعملون جنباً إلى جنب في الاندلس عندما كان المسلمون يحكمون شبه الجزيرة الايبيرية.
الفنون الاسلامية هي مجال تخصص جايغانتي، ولكنها كانت تملك ايضاً معرفة بالابجدية العبرية تكفيها لتميز أن هناك من ترجم الاسماء العربية الاصلية للرموز الفلكية الموجودة على الاسطرلاب إلى اللغة العبرية. بعد ذلك لاحظت ان احدى صفائح الآلة كانت مؤشرة بكلمة “طليطلة” على احد وجهيها وعلى وجهها الآخر بكلمة “قرطبة”.

صنع في الاندلس
كانت مواقع النجوم على الآلة متطابقة مع تلك التي على آلات الاسطرلاب الاخرى التي صنعت بين ستينيات وسبعينيات القرن الحادي عشر، بينما حملت صفيحة اخرى من صفائحها نقوشاً تمثل خطوط العرض لمنطقة شمال افريقيا، الأمر الذي يشير إلى أن من امتلك الآلة آنذاك كان يعيش في تلك المنطقة أو أنه كان كثير الترحال إليها.
تقول المؤرخة: “الأمر شبيه جداً بإضافة تطبيق جديد إلى هاتفك الذكي أو إدخال تحديث.”كان من الصعب تحديد التسلسل الزمني للرحلات التي مر بها إسطرلاب فيرونا، ولكن جايغانتي تعتقد انه صنع في الاندلس ثم انتقل من هناك إلى شمال افريقيا- ربما إلى المغرب تحديداً- قبل أن ينتهي إلى حوزة مالكه.
تمضي جايغانتي مستطردة: “هناك على الآلة إهداء مضاف .. أو لعله توقيع يقول نصه.. إلى اسحاق من صنع يونان. الاسمان كلاهما يهودي، لذا من المحتمل جداً أن الاسطرلاب في ذلك الحين كان بحوزتهما، لكن الأمر المثير للاهتمام هو أن تكون الكتابة باللغة العربية. فالعربية كانت هي اللغة المشتركة، رغم احتمال أن يكون المالك يهودياً، وكان اليهود يستخدمونها مثلما يستخدمها المسلمون والمسيحيون.تضيف جايغانتي أن احدى مجموعات الرموز العبرية منقوشة بدقة وأناقة وعمق. تقول: “تبدو مجموعة الخدوش للوهلة الأولى وكأن احدهم قد افتعلها باستخدام مفتاح، لكنها رغم ذلك من صنع يدين مختلفتين وفي مرحلتين زمنيتين مختلفتين، وهو أمر يشير إلى طول المدة التي لا بد أن تكون الآلة قد أمضتها كجزء لا يتجزأ من حياة المجتمع.”

نهاية الرحلة
ترى جايغانتي أن الاضافات التي باللغة العبرية توحي بأن الاسطرلاب قد خرج من اسبانيا أو شمال افريقيا في نهاية الأمر ليبدأ رحلة طوافه بين شتات الطائفة اليهودية في ايطاليا، حيث يشيع استخدام اللغة العبرية بدلاً من العربية.
أما المجموعة الأخيرة من النقوش، التي كتبت بأرقام غربية، فيبدو أنها نفذت بأيدي أشخاص يتحدثون اللغة الإيطالية أو اللاتينية. تعتقد جايغانتي أن الاسطرلاب قد انضم في النهاية إلى مجموعة مقتنيات موسكاردو وصار جزءاً منها قبل أن ينتقل، عن طريق المصاهرة، إلى عائلة مينيسكالتشي التي أسست “مؤسسة متحف مينيسكالتشي-إريزو” للمحفوظات في العام 1990.
تقول جايغانتي إن اكتشافها هذا الجهاز يمثل إلتقاء مثالياً بين شغفها بالالات والأجهزة العلمية وأبحاثها في كيفيات انتقال التحف والتكنولوجيا والزخارف الاسلامية إلى أوروبا.
تمضي مضيفة: “لم يحدث شيء مثل هذا من قبل ابداً، وربما لن يتكرر مرة أخرى. فنحن نعلم أن المسلمين والمسيحيين واليهود كانوا يعملون في اسبانيا القرن الحادي عشر جنباً إلى جنب، خصوصاً عبر الاوساط العلمية، وان العديد من العلماء اليهود كانوا يلقون الدعم المادي والرعاية من الحكام المسلمين دون التفات إلى دينهم.
لا يعني هذا أن الاسطرلاب قد انبأنا بذلك للمرة الأولى، فكل هذا كان معروفاً، ولكن الشيء الذي اعتبره استثنائياً هو أن ما بين ايدينا دليلا مجسدا وملموسا على ذلك التاريخ.”

عن صحيفة الغارديان البريطانية