ريو دي جانيرو البرازيليَّة أكبر مدينة للعبيد في العالم

بانوراما 2024/03/17
...

  سارة براون

  ترجمة: فجر محمد

تروي الصحفية سارة بروان كيف انضمت الى تجمع من زوار متحف {النصب التذكاري للسود الجدد} الواقع وسط مدينة ريو دي جانيروا البرازيلية، ونظرت باهتمام إلى الحفرة المغطاة بالزجاج حيث كانت أجزاء صغيرة من العظام البشرية تتناثر على الارض.

وبالرغم من ان هذا المشهد كان مثيرا للذكريات، الا انه لم يكن سوى جزء صغير من الجثث التي كانت تقدر بنحو 30 ألفا مدفونة عمدا ومخفية عن الانظار في حي جامبوا وسط مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية.

وتصف المرشدة السياحية “كيلي تافاريس” التي رافقت زوار المتحف خلال جولة لهم في احياء جامبوا وساودي وميناء ريو حيث تعرف هذه المناطق محليا بإسم “أفريقيا الصغرى” لأنها ضمت الشتات الأفريقي، لم تكن مجرد مقبرة نظامية لان هذا المصطلح يدل على ارض مقدسة ولها احترامها، وإنما كانت مقبرة جماعية. 

لقد تم اكتشاف حفرة العظام هذه عندما قامت احدى الاسر باعادة ترميم منزلها، وأكد علماء الآثار ان تلك الحفرة كانت عبارة عن خندق للدفن المؤقت، يعود الى القرن الثامن عشر اذ قام البرتغاليون بانشائه لضم رفات الافارقة المستعبدين، الذين قضوا نحبهم اثناء عبورهم المحيط الاطلسي خلال رحلة استمرت لشهرين باتجاه العاصمة ريو دي جانيرو.

أما اليوم، فيعد هذا المكان نصبا تذكاريا للسود الجدد (مصطلح اطلقه البرتغاليون على الافارقة عندما وصلوا من أوطانهم الى البرازيل، ويطلق عليهم بالبرتغالية اسم لادينوس- المترجمة) بعد ان حوله مالكاه؛ “ميرسيد” و”بيتروسيو غيماريش” إلى متحف ومركز أبحاث لتوثيق صفحات من التاريخ.

ويعدُّ هذا النصب واحدا من عدة اماكن يمكن زيارتها في منطقة الميناء وسط مدينة ريو دي جانيرو للتعرف بصورة أوضح على تاريخ تجارة الرقيق في المدينة، حيث وصل الى هذه المنطقة نحو مليوني أسير على متن السفن البرتغالية المتنقلة بين افريقيا والبرازيل خلال القرنين السادس عشر والثامن عشر.

وينظر إلى تاريخ العبودية وسنوات المقاومة التي تلته كأمر أساسي في تاريخ البرازيل، اذ ينتمي اليوم نصف سكان البلاد تقريبا الى الاصول الافريقية، فضلا عن الشعارات الرمزية للبلاد مثل السامبا والكرنفال والكابويرا، وكلها متجذرة في ثقافة مجتمعات السود. 


طمس التاريخ

بحسب استاذة التاريخ “يناي لوبيز” في جامعة فلوميننسي البرازيلية فقد تم اخفاء تاريخ السود واهمية قضية العبودية وطمسها على نحو متعمد في كل من البرازيل ومدينة ريو التي اصبحت منذ القرن التاسع عشر اكبر مدينة للعبيد على مستوى العالم انذاك.

وتعتقد المرشدة السياحية تافاريس ان افضل طريقة لفهم تاريخ العبيد وأهميته هي القيام بجولات سيرا على الاقدام في المدينة، كما تختص تافاريس بسرد تاريخ التراث الافريقي والسكان الأصليين اثناء الجولات الاستكشافية إلى الشوارع المرصوفة بالحصى في المناطق المعروفة بإسم (افريقيا الصغرى) وكذلك الازقة الخلفية المغطاة بالرسوم. 

والواقع إن هذه الشواهد تعبر عن خلفية تاريخية لكل موقع ولها أهمية ثقافية ايضا. 

وتروي الصحفية سارة براون كيف اجتمع الصحفيون في ميدان براسا ماوا، ثم انطلقوا مشيا على الأقدام إلى رصيف ميناء “فالونجو” الذي يعود تاريخه إلى القرن التاسع عشر ويرقد اليوم تحت أنقاض الميناء الحديث.

تعكس مباني المكاتب المتعددة الطوابق الاهمية التجارية التي تتمتع بها المنطقة في الوقت الحاضر.

فضلا عن حديث تافاريس، وصفت براون ما استحضره ذهنها من سفن شحن خشبية كانت ترسو وعلى متنها الوافدون الجدد من الافارقة السود، وكانوا منهكين ويعانون من سوء التغذية، إذ تمَّ اختطافهم من اوطانهم وتقييدهم ببعضهم الاخر واجبارهم على الاستلقاء على الارض اثناء رحلة العبور الطويلة في المحيط.

وتقول التقارير إنه ما بين الاعوام 1811و1813؛ أي الأعوام التي تم خلالها تشغيل الميناء الواقع وسط العاصمة البرازيلية، مر خلال تلك الفترة ما يقارب 900 ألف من العبيد الافارقة.

وفي تشرين الثاني من العام الماضي أكملت حكومة ريو دي جانيرو ترميماتها في الموقع الاثري الذي يضم حاليا لوحات عرض طولية تروي تاريخ الميناء القديم. 

قبل افتتاح بلدية “فولغانو” التي تقع ضمن محافظة بورتو في البرتغال، تم جلب الافارقة الى ريو دي جانيرو عبر الميناء إلى ساحة “براسا الخامس عشر”.

وعلى بعد مسافة تستغرق 30 دقيقة سيرا على الاقدام من رصيف فالونغو، تعج ساحة براسا اليوم بالناس الذين يتدفقون داخل وخارج القوارب الرابطة بين ريو دي جانيرو مدينة نيتيروي عبر خليج غوانابارا البرازيلي. 

تحيط بساحة براسا مبانٍ استعمارية تمت صيانتها بشكل جيد لها، لما لها رابطة ذاكرة تاريخية مع التاج البرتغالي وهو الجزء الاكثر شهرة من تاريخ الساحة.

ومع ذلك فقد تم جلب مليوني افريقي الى البرازيل واخضاعهم لنظام العبودية، قبل ان يتم نقل الميناء الى فالونغو البعيدة لأجل إخفاء تجارة الرقيق عن وسط مدينة ريو دي جانيرو المزدحمة وتقليل مخاطر الاصابة بالأمراض.

توضح براون كيف سار هؤلاء العبيد مشيا على الأقدام مسافة 300 متر من فالونغو الى قلب (افريقيا الصغرى) الى ساحة لارغو دو ديبوسيتو المعروفة حاليا باسم (براسا دوي ايستيفادوريس).

وسط باحة هذا الميدان، كانت هناك مساحة مفتوحة على نحو واسع، وكانت ذات يوم سوقا مزدهرة لتجارة

العبيد.

تم نقل الأفارقة الوافدين حديثا إلى ما كان يعرف باسم “بيوت التسمين” لغرض إطعامهم قبل بيعهم عبر المزاد العلني إلى أصحاب الأراضي، الذين يبحثون عن عمال لمزارع البن وقصب السكر التي كانت تغطي تلال ريو دي جانيرو.

تحدثت صاحبة المنزل الذي تحول الى نصب لاحقا ومن مكتبها الذي يقع داخل النصب التذكاري للسود الجدد: “لديك هنا شوارع وأماكن كانت في السابق متاجر لبيع الاسرى الأفارقة”. حتى كانت هناك متاجر تصنع السلاسل لتقييد العبيد، تماما مثل متاجر الحيوانات الأليفة التي يمكنك الحصول منها على طوق لكلبك. 

إنها مقارنة مجحفة، لكنها كانت كذلك. علينا أن نتحدث بهذه الطريقة حتى يشعر الناس بذلك بعمق.”

بعد عودة مجموعة الزوار الراجلة باتجاه الرصيف، غامر أفرادها بالدخول الى زقاق مرصوف بالحصى للوصول الى مسقط رأس السامبا، المعروفة باسم “بيدرا دو سال”، الذي يتميز بدرج حجري محاط بجدران مطلية بإشارات الى تاريخ السود في المنطقة.

لقد كانت هذه المنطقة في السابق سوقا للعبيد والملح، ثم اصبحت تدريجيا نقطة التقاء للبرازيلين الافارقة المحررين، خصوصا عندما حظرت البرازيل تجارة الرقيق في العام 1831 ثم في نهاية المطاف انهت قانون العبودية بحلول العام 1888.


تاريخ السامبا

بينما كان هؤلاء البرازيليون الأفارقة يعيشون في فقر، ازدهروا ثقافيا، بدءا من ممارسة الديانات الأفروبرازيلية، مثل كاندومبلي، وحتى تطوير تجمعات السامبا الأولى في ريو دي جانيرو.

كان بيدرا دو سال هو المكان الذي شهد أول كرنفال “رانتشوس” وهو  بدايات مدارس السامبا الشهيرة الآن في ريو، والأندية التي تُقوم بتلك المسيرات الكرنفالية، حيث ظهرت أولى دوائر السامبا، مما منحها لقب “مسقط رأس السامبا”. 

وقد عزف هنا بعض من أعظم الأسماء في الموسيقى البرازيلية، بضمنها  جواو دا بايانا وبيكسينغوينها ودونغا.

ومع ذلك، وقبل ما يزيد على نحو 100 عام فقط، كان من المستحيل بالنسبة لهذه المجتمعات أن تتخيل أن السامبا سوف تعزز ذات يوم الهوية الوطنية للبرازيل.

وفقا لتافاريس، فقد كانت النخبة في ريو دي جانيرو تشكك برقصة السامبا ويجرمونها، اذ تعرض الراقصون لهذه الرقصة للاضطهاد، كما اعتقلت الشرطة الموسيقيين واعتبرتهم مجرمين، فضلا عن كسر آلاتهم الموسيقية.

ولهذا السبب، كانت تجمعات السامبا تعقد سرا خلف الابواب الموصدة. 

لقد كانت أحد اشهر البيوت التي تقام فيها حفلات السامبا مملوكة لسيدة اسمها “هيلاريا باتيستا دي الميدا”، التي يطلق عليها إسم العمة سياتا، ويبدو أنها كانت شخصية مؤثرة في تطوير السامبا بمدينة ريو دي جانيرو. 

ولا يزال إرثها حيا في منطقة كاسا داتيا سياتا، وهي مساحة ثقافية توثق قصتها، وتقع الى جوار بيدرا دو سال مباشرة.

“لم تكن السامبا المظهر الافريقي الوحيد الذي تعرض للاضطهاد، بل الكابويرا أيضا، وهي عبارة عن فن قتالي تنكري على شكل رقصة، كان ينظر إليه ايضا على انه مصدر تهديد، ما دفع السلطات العامة الى حظره خلال القرن التاسع عشر”. 

تشرح تافاريس تفاصيل القصة بينما تشير الى مجموعة من الشخصيات المرسوم بخطوط الظل باوضاع مختلفة للكابويرا، وقد رسمت على جدار شارع وعلى بعد 200 متر من بيدرا دو سال.

وعلى مقربة منهم كانت هناك صورة لرجل يدعى زومبي دوس بالماريس، وبحسب توضيح تافاريس يبدو انه كان زعيم تجمع عرف باسم كويلومبو دوس بالماريس.

كانت كويلومبو عبارة عن مجتمعات مكونة من العبيد السود الذين قاوموا العبودية، والتي تشكلت إلى حد كبير من الهاربين، الذين فروا إلى الأراضي الحرة البعيدة والمعزولة، وكانت كويلومبو دوس بالماريس تقع إلى الشمال الشرقي من البرازيل، وهي الأكبر والأقدم من نوعها.

يرمز الزومبي اليوم إلى مقاومة السود ويذكر بتاريخ العبيد في البرازيل. 

وتصف براون ساحة لارجو دي ساو فرانسيسكو دا براينها، بانها تضم تمثال مرسيدس بابتيستا، راقصة الباليه ومصممة الرقصات وأول امرأة سوداء في ريو دي جانيرو، كانت ترقص على منصة المسرح البلدي في العام 1948. 

في الوقت الحاضر تحيط المطاعم والكافيهات التي تقدم الموسيقى الحية بهذه المساحة المفتوحة، وهي مكان جيد لتجربة المأكولات البرازيلية المستوحاة من المطبخ الأفريقي.

يقول توم لو ميسورييه، مؤسس شركة ايت فود ريو تاورز: “ان الطعام الأفروبرازيلي هو من أشهى المأكولات التي ستجدها في البرازيل”. ويوصي ميسورييه بمجموعة من الاكلات اللذيذة لما تحتويه من نكهة ولمسة مختلفة.

هناك الكثير مما يحدث وفي كل مكان من (أفريقيا الصغرى) في حين أن قصتها لا تزال مخفية إلى حد كبير عن خارج البلاد، فإن المشي عبر المنطقة في جولة إرشادية يفتح الباب على هذا الماضي المعقد، ويكرم حفنة من الأشخاص في مجال السياحة والبحث الذين يعملون بجد للتأكد من عدم نسيان هذا التاريخ، بل تضخيمه، أيضاً. 

وتبين ميرسيد  ان عليك أن تعرف هذا التاريخ، وتزور هذا المكان، وتعرف ما حدث وكيف كانت البرازيل في ذلك الوقت”. “ثم قارن ذلك بما هي عليه البرازيل اليوم وما نريده لها غدا”. 


 موقع بي بي سي البريطاني