بوصلة سياسة العراق الخارجيَّة في عالم الاستقطاب المضطرب
السفير الدكتور هشام العلوي
تعني القطبيَّة لغوياً المحور الثابت الذي يجتذب الأشياء، واصطلاحاً- بوصفها ظاهرة في النظام الدولي- فهي تعني الدولة العظمى التي تمتلك عناصر القوة الشاملة أو جزءاً منها، لتستقطب الدول لمجالها السياسي وفلكها، وهذا ما يعرف بالاستقطاب الدولي.
في العلاقات الدولية، فإن القطبية يمكن أن تشير إلى وجود قطب واحد أو قطبين أو أقطاب متعددة، تحاول استثمار القوة الصلبة أو الناعمة في الوضع الدولي أو النظام الدولي، وتمارس أدوارها بأدوات ووسائل مختلفة لجذب الدول واستقطابها عبر المشاريع والمبادرات الاقتصادية، والتحالفات العسكرية أو الستراتيجية، أو عبر التفوق والسيطرة.
خلال القرن العشرين، مرَّ النظام الدولي بتحولات مرحلية من أنواع القطبية، وكما يأتي:
1. التعددية القطبية قبيل الحربين العالميتين اللتين وقعتا في القرن الماضي.
2. القطبية الثنائية: التي برزت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في عام 1945 أو ما يعرف اصطلاحاً بالحرب الباردة بين القوتين العظميين (المعسكرين الشرقي والغربي).
3. القطبية الأحادية: برزت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991، إذ تمكنت الولايات المتحدة الأميركية من فرض وجودها ونفوذها، بوصفها دولة عظمى واحدة لها قوتها العسكرية وتفوقها الاقتصادي والتكنولوجي والصناعي عالمياً، على القوى والخصوم المحتملين الصاعدين والكبرى (روسيا والصين).
استمرت الولايات المتحدة الاميركية بالتربع على هرم النظام الدولي بوصفها القوة الوحيدة آنذاك، وتميز العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بالأحادية القطبية، ومع إرهاصات العقد الثاني حصلت تطورات وتحولات عميقة في مركز القوة العالمي، إذ بدأت روسيا الاتحادية تبحث عن مكانتها المعهودة، وبرزت الرغبة الصينية بالصعود، وبالتالي مزاحمة الدول في تبوّء مكانة مهمة لاسيما على الصعيد الاقتصادي والصناعي والتكنولوجي، ومن ثم فرض وجودها في السياسة الدولية بهدف تغيير النظام الدولي لمتعدد الأقطاب، فضلاً عن سعي دول أخرى لاحتلال مكانة مهمة في التفاعلات الدولية كالهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، وهذا ما انعكس في تشكيل مجموعة بريكس (BRICS) بوصفها كتلة اقتصادية لها أهدافها وطموحاتها بعيداً عن النظام القديم.
يمكننا وصف النظام الدولي الراهن، في خضم هذه التحولات والانتقالات ما بين القطبية الأحادية والمرحلة الانتقالية إلى نظام متعدد الأقطاب، مع العرض أنَّ النظام الأخير لم تكتمل ملامحه وطبيعته بصورة جلية، لكن يمكن وصفه بأنه نظام قطبية دولية متخصصة أو قطاعية، من حيث وجود قطب أحادي متفوق عسكرياً، وأقطاب دولية أخرى لها ثقلها ونفوذها الاقتصادي والتكنولوجي والعسكري كالصين وروسيا، مما يجعل كل هذه الأقطاب تتبنى الاستقطاب الدولي لبلوغ القطبية المتعددة الواضحة المعالم لتغيير قواعد اللعبة، من خلال تبني ستراتيجيات وديناميات تتحرك وتتجسد في المشاريع الدولية والمبادرات والتكتلات والتحالفات، واجتذاب أكبر عدد ممكن من الدول نحوها من الناحية العسكرية كما هي الحال مع الولايات المتحدة الأميركية وعلاقتها مع حلف الناتو في أوروبا، وتبنيها مشروع القرن الأميركي الجديد، وتحالفي أكوس (أستراليا وبريطانيا وأميركا)، وكواد (الولايات المتحدة واليابان وأستراليا والهند) في آسيا، والمشاريع التنموية في عالم دول الجنوب، وما طرحته خلال اجتماع مجموعة السبع لمشروع "إعادة بناء عالم أفضل " الذي رُصد فيه نحو 40 مليار دولار.
بالمقابل فإنَّ الصين كذلك لديها مشاريعها ورؤيتها للنظام الدولي، إذ طرحت في عام 2013 مبادرة الحزام والطريق التي انضمت إليها أكثر من 152 دولة، وهي مبادرة تنموية شاملة تستهدف مناطق
إقليمية بعيدة، أما روسيا فهي الأخرى تطمح لأن تكون أحد أقطاب العالم، من حيث رؤيتها في حماية أمنها القومي، فضلاً عن طرح مبادرات من شأنها أن تعزز الدور الروسي عالمياً، فعلى سبيل المثال وليس الحصر من خلال تحويل ديون الدول الأفريقية إلى استثمارات أو مشاريع تنموية،
إضافة إلى إبداء الرغبة بالمشاركة في مشروع طريق التنمية العراقي، وعليه، فإنَّ التنافس الستراتيجي بين الأقطاب المتخصصة هو النمط السائد في المرحلة الراهنة،
والشغل الشاغل للدول الكبرى والعظمى على حدٍ سواء.
إنَّ النظام الدولي الحالي هو نظام يرتكز في محركاته على الاستقطاب بين الدول المتنافسة والمتصارعة، وعليه انعكس الاستقطاب باتجاه المجالات الحيوية للدول، ضمن الرقعة الجغرافية لتشمل أماكن ابعد إقليمياً ودولياً، وتصل إلى مناطق في آسيا وأوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط، مما جعلها تعاني الأزمات المزمنة والمشكلات العميقة والصراعات المحتدمة، بغية الوصول إلى نقطة نظام دولي قائم على التعددية القطبية الواضحة المعالم.
السؤال الأهم الذي يأتي في هذا السياق، هو أين العراق من هذا الاستقطاب الدولي المحتدم بين الدول العظمى؟
أين ستتجه بوصلة سياسة العراق الخارجية في عالم يسوده الاضطراب والاستقطاب؟
إنَّ دستور جمهورية العراق النافذ لعام 2005، ومن خلال عدد من المواد الواضحة والصريحة فيه، يعدّ هو الأساس والمحرك الرئيس لتوجهات السياسة الخارجية العراقية، إذ جاء فيها التأكيد "أنَّ العراق جزء من العالم الإسلامي وجزء من العالم العربي"، وهذه دلالة ومرتكزٌ مهمٌ في التوجهات الثابتة للعراق في سياسته الخارجية، لإدامة التواصل مع هذين العمقين الستراتيجيين.
كما نصت المادة (7) من الدستور على أهمية "حظر الكيانات العنصرية والإرهابية والتكفيرية والطائفية"، وهذه دلالة على أنَّ سياسة العراق الخارجية ترتكز على عدم تبني أي سياسة أو فعل له ارتباطات عنصرية أو إرهابية داخلياً وخارجياً، مع التأكيد على "محاربة الإرهاب بجميع أشكاله، إذ تعمل الدولة على حماية أراضيها من أن تكون مقراً أو ممراً أو ساحة لنشاطه تجاه الدول"، وهذا ما اعتمدت عليه سياسة العراق الخارجية منذ سنوات بعد أن تم دحر عصابات داعش الإرهابية.
تعد المادة (8) من المبادئ الأساسية لسياسة العراق الخارجية، إذ نصت على: "يرعى العراق مبادئ حسن الجوار"، إذ لدينا سياسات ملموسة وواضحة تجسّد هذا المبدأ من خلال تبني ستراتيجيات شراكة مع دول الجوار العربي وغير العربي،، فعلى سبيل المثال وصل مجموع حجم التبادلات التجارية مع تركيا وإيران في العام 2023 إلى أكثر من 27 مليار دولار، فضلاً عن حجم التبادلات التجارية والمشاريع التنموية المشتركة التي لا يستهان بها مع السعودية والأردن
ومصر.
ينطلق العراق بسياسته الخارجية من مبدأ دستوري مهم، ألا وهو "عدم التدخل بالشؤون الداخلية للدول الأخرى"، ويسعى لحل النزاعات بالوسائل السلمية، وتجسد ذلك في مواقف العراق الثابتة طوال السنوات الماضية، تجاه القضايا والمشكلات والأزمات الإقليمية والدولية، ومن أهمها موقف العراق الثابت من القضية الفلسطينية وضرورة تحقيق حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وقيام دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وموقفه من حل الأزمة الروسية الأوكرانية عبر اللجوء للحلول السلمية والحوار واحترام مبادئ القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، فضلاً عن دوره الدبلوماسي في تقريب وجهات النظر بين إيران والسعودية في بغداد أثناء الجولات الأولى قبل توقيع الاتفاق المشترك بينهما في بكين، والتقريب بين تركيا وإيران مع الشقيقة مصر، وموقف العراق من القضية السورية وأهمية عودة سوريا لمقعدها في جامعة الدول العربية، وغيرها من القضايا والأزمات الإقليمية والدولية، إذ يتطلع العراق إلى التهدئة وإحلال السلم والأمن الإقليميين، والتوجه نحو تعزيز دور التنمية في استنهاض الشعوب، وتحقيق المصالح المشتركة والمتبادلة.
يقيم العراق عبر سياسته الخارجية وأدواته الدبلوماسية علاقات ترتكز على المصالح المشتركة مع جميع دول العالم، فالعراق جزء مهم من مبادرة الحزام والطريق الصينية منذ عام 2015، وهو شريكٌ ستراتيجيُ مع الولايات المتحدة الأميركية من خلال اتفاقية الإطار الستراتيجي، وهناك اتفاقات شراكة ستراتيجية مع ألمانيا وفرنسا وروسيا وبريطانيا وهولندا، ورغبة عراقية هندية في توسيع الشراكة الاقتصادية والتعاون التكنولوجي، وزيارة رئيس الوزراء الإسباني إلى بغداد خير دليل على أهمية الشراكات الستراتيجية والإدراك الستراتيجي المتبادل بين الجانبين، ولدينا اتفاق شراكة وتعاون مع الاتحاد الأوروبي.
وفي مجال المنظمات الدولية والإقليمية، لدى العراق حضور فعال في الأمم المتحدة، وجامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، ومنظمة دول عدم الانحياز وغيرها من المنظمات ذات الطابع التخصصي والفني.
خلاصة القول، تعمل حكومة العراق على ترتيب أوراق البيت الداخلي، وتنفيذ ستراتيجية شاملة لتحقيق التنمية المستدامة، وإعادة إعمار البنى التحتية وتطويرها، إذ يتمحور البرنامج الحكومي لدولة رئيس مجلس الوزراء المهندس محمد شياع السوداني حول تحسين الخدمات للإنسان العراقي في المجالات كافة.
إنَّ العراق ومن خلال سياساته الخارجية وتبنيه دبلوماسية تصفير المشكلات مع دول الجوار، وتوفير منصة للحوار وحل الأزمات وإنهاء الصراعات في المنطقة، يسعى للابتعاد عن سياسة المحاور، إيماناً منه بأهمية تبني سياسات متوازنة وعقلانية تحقق مصالحه الوطنية العليا وتصب في مصلحة الشعوب والدول الصديقة، وهو يريد بناء علاقات وشراكات ستراتيجية شاملة مع الدول الناشئة والصاعدة والعظمى، سواء أكان النظام الدولي أحادياً أو ثنائياً أو متعدداً.
وكيل وزارة الخارجية لشؤون التخطيط السياسي