نحو سياسة نقديَّة عالميَّة متعددة الأقطاب
لا أعتقد أنَّ هناك سلطة أقوى من الدولار في العراق, فجميع السلطات تخضع له راضية مرضية, وهناك من يبرِّر مدافعاً عن مصالحه الدولارية وآخرون ينصحون بعدم المساس بهذه السلطة خوفاً أو طمعاً, فهل يمكن أن نجد مخرجاً قريباً من هذه السلطة المتحكمة في كل شيء لاسيما أنَّ أغلب إيرادات العراق تتحصل من خلال الدولار.
في عام 2014 تمت معاقبة بنك (BNP Paribas) بغرامة قدرها 9 مليارات دولار تدفع إلى الولايات المتحدة نتيجة قيامه بتمويل صادرات من كوبا والسودان وإيران بالدولار الأميركي لأنَّ الدول الثلاث ترزح تحت العقوبات الأميركية رغم أنَّ عملية التمويل قد استغرقت جزءاً من الثانية حينما مرت عبر حساب (باريبا) في نيويورك ليس أكثر, الأمر الذي جعل محكمة أميركية تقضي بهذه الغرامة الثقيلة رغم أنَّ جميع الإجراءات المتبعة في التحويلات كانت قانونية بحسب القوانين الأوربية ورغم أنَّ البنك المذكور هو مؤسسة عالمية متعددة الجنسيات وشركة قابضة للخدمات المالية وتعود لدولة صديقة ومقرها في باريس وهي ذو دراية واسعة بطبيعة القوانين المالية الدولية, ومع ذلك فقد تعرضت إلى تلك العقوبة القاسية ولم يؤخذ بنظر الاعتبار أنَّ هذا البنك يعود لدوله حليفة ومن الخمس الكبار في مجلس الأمن. هذه الإجراءات القاسية التي تُتخذ من طرف واحد مكنت الأميركيين من فرض سطوتهم المالية على دول العالم الأخرى, ونتيجة هذا الأسلوب والخشية من عقوبات قاسية غادرت الشركات الأوروبية إيران عام 2018 بعد أن امتثلت لقرار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بعد انسحابه من جانب واحد من اتفاق فيينا النووي لعام 2015, وعندما رفضت حكومة السيد عادل عبد المهدي الامتثال لتطبيق العقوبات على إيران، تم إسقاطها.
الواضح أنه بفعل قوة الدولار تهيمن الولايات المتحدة على التجارة العالمية منذ زمن طويل، لكن في الآونة الأخيرة تباينت وجهات نظر الكثير من المؤسسات المالية العالمية بشأن مستقبل الدولار الأميركي بين من يعتقد بضعفه مستقبلاً ومن يعتقد أنه سيظل قوياً باعتباره العملة الدولية الوحيدة المستقرة المضمونة في التداول.
قبل ثمانية وسبعين عاماً وتحديداً بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية أصبح الدولار عملة الاحتياط والصرف في جميع أنحاء العالم دون منازع, لكن بعد أن تورط العالم به على أساس استبداله بالذهب بسعر ثابت قدره 35 دولاراً للأونصة، وبعد تهافت البنوك المركزية على الدولار من أجل تكوين احتياطاتها خاصة أنَّ ودائعه كانت مستقرة مثل الذهب إضافة إلى سهولة الاحتفاظ به أو إدارته, حينها بدأ الأميركيون ينتجون ذهباً عندما يطبعون الدولارات كموازن له, فعلى سبيل المثال قام بنك فرنسا بشكل منهجي بدءاً من عام 1965 في استبدال الذهب بالدولار، قبل أن تفاجئ أميركا العالم في 15 أغسطس/ آب 1971 دون تنسيق مسبق مع أي من حلفائها، بإنهاء التحويل الدولي المباشر من الدولار إلى الذهب. بعد التخلي عن الذهب باعتباره غطاء كاملاً للنقود أصبح غطاء العملات يجمع مكونات عدة، من بينها الذهب وما تمتلكه الدولة من عملات أجنبية رئيسة (الدولار، اليورو، الجنيه الإسترليني، الين الياباني، الفرنك السويسري، الدولار الأسترالي، واليوان الصيني) مما جعل كل تذبذب في السياستين المالية والنقدية في الولايات المتحدة يؤدي إلى عدم استقرار عملات الدول الصاعدة والنامية صعوداً أو هبوطاً بشكل لا يعبر عن الأداء الاقتصادي لتلك الدول، مما يشكل مصدر خطر اقتصادي مستمر, هذا الأمر دفع بعض الدول إلى استخدام عملتها المحلية لتسوية تعاملاتها التجارية تفادياً لمخاطر تقلبات الدولار أو استخدام عملات أخرى غير العملة الأميركية.
بعد الصعود الكبير في أسعار النفط العالمية بدءاً من عام 1973 ونتيجة الفواتير الضخمة بالدولار ظهرت مشكلة أو ظاهرة تسمى الـ(بترودولار) حيث أصبحت المبالغ الهائلة التي تنتجها أسواق الطاقة تستثمر في الأسواق الأميركية، ما وفر ميزة نسبية لاقتصاد الولايات المتحدة، وأدى إلى إحباط كبير لدى شركائها الأوروبيين بشكل خاص, مما دفعهم وكرد فعل طبيعي إلى إصدار عملة أوروبية موحدة في عام 1999 حيث تم إنشاء اليورو كعملة عالمية، لكنه لم يتمكن من منافسة الدولار بسبب عدم وجود خزانة أوروبية موحدة تقابل سيولة أسواق نيويورك، وبالتالي بقي الدولار في مكانته وسطوته كعملة الاحتياط والتداول الرئيسة في العالم.
حينما حدثت الأزمة المالية العالمية لعام 2008 كان المتوقع تراجع هيمنة الدولار لأنَّ الأزمة كانت مسؤولية الولايات المتحدة وحدها، لكن المفارقة الغريبة أنه تم تعزيز هيمنته مما حدا الرئيس باراك أوباما على التأكيد في آذار 2009 أنَّ الدولار سيحتفظ بهيمنته على التجارة العالمية، مستندا بذلك إلى أسباب سياسية لا اقتصادية، وهي (أنَّ أميركا لديها أكثر الأنظمة استقراراً وشفافية في العالم), ومثال تلك الشفافية أنَّ الجميع مطلع على كيفية عمل ميزانية الولايات المتحدة والاحتياطي الفيدرالي والنظام المالي، بينما تعمل نظيراتها الصينية بشكل تنقصه الشفافية الكاملة مما جعل من الدولار ملاذاً آمناً دون منافس حقيقي في المدى القريب الأمر الذي يدفع المستثمرين للجوء إليه مع أي أزمة مالية لاحقة لكن هذا لا ينفي تراجع استخدامه عالميا, فقد بدأت سيطرة العملة الأميركية على العالم تفقد زخمها مع بروز ظاهرة (تسليح الدولار) بعد بدء الحرب الروسية الأوكرانية، إذ أنتجت العقوبات الاقتصادية الغربية على روسيا تأثيراً سيئاً في النظم الاقتصادية والتجارية والمالية العالمية على نحو أثار مخاوف كبيرة في الأسواق العالمية بخصوص تعديل النظام المالي العالمي. هذا القلق والخوف قادا إلى تراجع احتياطات النقد العالمية بالدولار إلى 59 % حالياً بعد أن كانت تشكل نحو 72 % في عام 1999 وهو تراجع كبير في مدة قصيرة نسبياً.
ومع ذلك فإنَّ نزع (دولرة العالم) لن يكتمل في المدى القصير، لكن الواضح أنَّ الحركة التي بدأت ولا رجعة فيها, لاسيما أنَّ الولايات المتحدة تصرفت بـ(غباء) حينما جعلت من عملتها سلاحاً للضغط السياسي، وهم (الأميركيون) قد دفعوا العالم- من غير قصد- لتشكيل حركة عالمية للتخلص من الدولار لاهتزاز ثقة العالم بالتصرفات المالية الأميركية لاسيما العقوبات المالية أحادية الجانب التي فرضتها على دول كثيرة.
ولم تكتف الولايات المتحدة بذلك فقد أمعنت في استنزاف سمعة الدولار حينما قامت بتجميد احتياطيات النقد الأجنبي للبنك المركزي الروسي المقومة بالدولار في عام 2022 بعد مشاركتهم كطرف في الحرب الروسية الأوكرانية مما جعل قادة العالم غير الغربيين يخشون من تصرف مماثل مع دولهم في ما لو دخلت دولة بحرب مع أحد الجيران وكان ذلك الصراع لا يرضي واشنطن، فهذا يعني أنَّ دولهم ستفقد الجزء الأكبر من احتياطياتها من النقد الأجنبي، مما دفعهم للبدء بعمل تدريجي لخفض تلك الاحتياطيات بالدولار.
المقاومة العالمية لهيمنة الدولار أخذت أبعاداً مختلفة لكن المثال الأوضح هو زيادة نشاط مجموعة بريكس في تسريع إطلاق عملتها الخاصة لتمويل بورصاتها، وتطوير الصين لنظام التسوية الإلكترونية الخاصة بها بين البنوك لتشكل بديلاً لنظام سويفت (Swift) الذي يسيطر عليه الغرب بعد أن منعت جمعية “سويفت” جميع المصارف الإيرانية تقريباً ثم المصارف الروسية لاحقاً من استخدام نظام المراسلة حيث بررت إجراءاتها بمشكلات غسيل الأموال وليس للعقوبات الأميركية مما دفع طهران لربط نظام المقاصة المالية المحلي (SEPAM) الخاص بها بنظام روسيا لتحويل الرسائل المالية (SPFS)، الأمر الذي يمكّن البلدين من الناحية النظرية من إجراء
المعاملات العابرة للحدود. ثم تعزز هذا النشاط عندما التقى الرئيسان فلاديمير بوتين وشي جين بينغ في 15 كانون الأول/ ديسمبر، وإعلانهما خططاً لتطوير نظام مشترك للرسائل المالية والمقاصة بين روسيا والصين. وضمن هذا الإعلان دعوة المصارف الدولية للانضمام لهذا النظام بهدف ردع التهديد الغربي المستمر بالعقوبات الاقتصادية.
مجموعة دول بريكس (BRICS) التي تضمّ الاقتصادات الأسرع نمواً في العالم، متمثلة بروسيا والصين إلى جانب البرازيل والهند وجنوب أفريقيا ودول نامية أخرى انضمت أخيراً وأخرى تنتظر الموافقة على طلبات انضمامها. لا تخفي الدول الخمس المؤسسة لهيكل (بريكس) نواياها بشكل صريح من أنها تعمل على تشكيل نظام دولي جديد، يؤمن بالتعددية ورفض التفرد في صنع القرارات السياسية والاقتصادية، وهي لا تُخفي أهدافها السياسية المتمثلة في استقطاب القوى الدولية الرافضة
للنظام الدولي الحالي. تعترف هذه المجموعة بعوامل ضعفها المتمثل بالعلاقة الوثيقة لبعض أعضائها مع الولايات المتحدة، لكنها تعتبره تحدياً يمكن التغلب عليه مع مرور الزمن، عبر توفر عوامل القوة الكبيرة، مثل حصتها من احتياطيات العملة الأجنبية؛ فأربع دول منها (الصين، البرازيل، الهند، جنوب أفريقيا) تحتفظ بنحو 40 % من مجموع احتياطيات العالم النقدية، بينما تملك الصين وحدها حوالي 2.4 تريليون دولار وهو رقم كبير جداً، إذا ما عرفنا أنه يكفي لشراء ثلثي شركات مؤشر ناسداك (Nasdaq)، وهي ثاني
أكبر دائن بعد اليابان.
أما روسيا فإنها تصنف معركتها مع الغرب بـ(المعركة الوجودية)، وتعتبر أنَّ عضويتها في هذه المجموعة تمثل حماية لها، وتدعم توجهاتها الستراتيجية وخياراتها الخاصة في رسم مبدأ عالمي جديد يركز على أنَّ جميع الطرق لم تعد تؤدي إلى واشنطن وحدها. يمكن ملاحظة العمل الجدي لمجموعة (بريكس) من خلال تشكيل مجموعة من المؤسسات المالية المهمة مثل تأسيس بنك التنمية الجديد ومقره شنغهاي ليصبح نظيراً ومنافساً للبنك الدولي، كذلك تأسيس صندوق بريكس، مقابل صندوق النقد الدّولي. هذان التأسيسان المهمان أعلنا عن أهدافهما في دعم النّمو والتّنمية على المستوى الدولي، مما يمثّل الخطوة الأولى في مخطّط دول بريكس لخلق نظام عالمي جديد، ولتحرير العالم من قيود المؤسستين الماليتين (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) اللتين تتحكم بهما الولايات المتحدة في رسم سياستهما العامة، بما يخدم مصالحها كما يتهمها خصومها.
من العوامل المهمة التي تسرع من ظهور النظام الجديد هو الطبيعة النفعية للمؤسّسات الأميركيّة الاقتصاديّة نفسها؛ إذ يتوقع أن تتبع مصالحها وتلتحق بالنظام الجديد، فهي ببساطة لن تكون أكثر وطنيّة من المؤسّسات الاقتصاديّة الأوروبيّة التي هجرت أوروبا وغادرت إلى أميركا، عندما اقتضت مصالحها ذلك، حينما برزت أميركا كقوة متفردة في العالم على المستوى المالي، وقد نشهد انتقال رأس المال الأميركيّ إلى الصين وحلفائها بشكل أسرع من المتوقع، وحينذاك سيكون البنك والصّندوق الدّوليان الجديدان أكثر جذباً لرأس المال الدّوليّ، مما يسهم في زيادة القدرة التّنافسيّة المتصاعدة لأسواق دول (البريكس) في اجتذاب رؤوس الأموال العالميّة، وهذا سيساعد المجموعة في التغلب على نقاط الضّعف المتفاوتة بين دولها المتمثلة بمعدلات الفقر وعدم المساواة، إضافة إلى البعد الجغرافيّ بين هذه الدول ووجود تيّارات أيديولوجية ذات صبغة تنافسيّة حادة، كما هي الحال بين روسيا والصّين.
العراق كدولة نامية ومهمة لجميع أطراف الصراع العالمي بسبب مركزه في الشرق الأوسط وامتلاكه أهم عناصر الصراع المتمثل بالطاقة، فهو يستطيع أن يتخذ القرار الصحيح بعد أن توضحت الصورة عن طبيعة توجهات الاقتصاد العالمي وأن يعمل على جذب الجميع للتنافس في استثمارات تعود بالفائدة على شعب العراق، وتوفر فرصاً مهمة في بناء البنى التحتية التي تشكّلُ أساساً لتلك الاستثمارات الغربية والشرقية على حد سواء، لكن عليه أن يختار التيارات الصاعدة حينما يكون في موضع الاختيار, مع ملاحظة أنَّ ما يشاع عن عقوبات أميركية مدمرة ضد العراق إنما هي أفكار وصور نمطية يرددها بعض المراهقين في السياسة والاقتصاد لأنه باعتقادي أنَّ الولايات المتحدة لن تلجأ إلى مثل هذا الأجراء لأنه سيقرب نفاذية (Expiry Date) الثقة المتبقية لها كسلطة اقتصادية عالمية وإن فعلت ذلك ستخسر العراق إلى الأبد وهي لا تريد ذلك مطلقاً.