مكسيكو ستي ومعاناة الحصول على الماء

بانوراما 2024/03/19
...

 لورا باديسون وجاك جاي وفيديل جوتيريز

 ترجمة: بهاء سلمان

ظل {اليخاندرو غوميز} بلا خدمات مياه مناسبة لأكثر من ثلاثة أشهر، حيث كانت تأتي أحيانا لساعة أو ساعتين، ولكن فقط بقطرات صغيرة، بالكاد تكفي لملء إثنين من الدلاء، ثم لا شيء لعدة أيام. غوميز، الذي يعيش في منطقة تلالبان في مكسيكو ستي، لا يملك خزانا كبيرا لحفظ الماء، لذا لا يمكنه الحصول على المياه الواصلة بواسطة الصهاريج، لعدم وجود مكان لتخزينها، ببساطة. وبدلا من ذلك، يقوم هو وعائلته بكسب ما يمكنهم شراؤه وتخزينه.

وعندما يغتسلون، فإنهم يحتفظون بالماء المتساقط جراء الغسل لأجل تنظيف المراحيض. يقول غزوميز: “الأمر صعب، فنحن بحاجة إلى الماء، لأنه ضروري لكل شيء.” نقص المياه أمر شائع في هذا الحي، بحسب غوميز، ولكن هذه المرة يبدو الأمر مختلفا. “في الوقت الحالي، نواجه هذا الطقس الحار. والأمر أسوأ من ذلك، فالأمور أكثر تعقيدا.”

تواجه مكسيكو ستي أزمة مياه حادة حيث تتفاقم مجموعة متشابكة من المشكلات، بما في ذلك الجغرافيا والتنمية الحضرية الفوضوية والبنية التحتية المتهرئة، بسبب آثار تغيّر المناخ. وتعد مكسيكو مدينة مترامية الأطراف تضم نحو 22 مليون شخص وهي واحدة من أكبر المدن على مستوى العالم.


معاناة مستمرة

وقد أدت سنوات من انخفاض هطول الأمطار بشكل غير طبيعي وفترات الجفاف الأطول ودرجات الحرارة المرتفعة إلى زيادة الضغط على نظام المياه الذي يكافح بالفعل للتعامل مع الطلب المتزايد. وإضطرّت السلطات لفرض قيود كبيرة على ضخ المياه من الخزانات. وتقول “كريستيان دومينغيز سارمينتو”، عالمة الغلاف الجوي في الجامعة الوطنية المستقلة في المكسيك: “تعاني عدة أحياء من نقص المياه منذ أسابيع، ولا يزال هناك أربعة أشهر متبقية لبدء تساقط الأمطار.”

يقلل السياسيون من أهمية أي شعور بالأزمة، لكن بعض الخبراء يقولون إن الوضع وصل الآن إلى مستويات حرجة لدرجة أن مدينة مكسيكو يمكن أن تتجه نحو “يوم الصفر” في غضون أشهر، حيث تجف الصنابير في مساحات شاسعة من المدينة. تمتد مدينة مكسيكو ذات الكثافة السكانية العالية عبر قاع بحيرة على ارتفاعات عالية، تبلغ نحو 7300 قدم فوق مستوى سطح البحر. وتم بناء المدينة على تربة غنية بالطين، وهي تغطس داخلها الآن، مع كونها عرضة للزلازل وتغيّر المناخ بشكل شديد. ولربما تكون واحدة من الأماكن الأخيرة التي قد يختارها أي شخص لبناء مدينة ضخمة في يومنا هذا.

اختار الأزتيك هذه البقعة لبناء مدينتهم “تينوتشتيتلان” العام 1325، عندما كانت عبارة عن سلسلة من البحيرات؛ وقاموا بأعمال البناء على جزيرة، وقاموا بتوسيع المدينة إلى الخارج، وبناء شبكات من القنوات والجسور للتناسق مع الماء. ولكن عندما وصل الأسبان في أوائل القرن السادس عشر، هدموا جزءا كبيرا من المدينة، وقاموا بتجفيف قاع البحيرة، وملء القنوات، وازالة الغابات. ويقول “خوسيه ألفريدو راميريز”، المهندس المعماري والمدير المشارك لمنظمة غراوند لاب، وهي منظمة أبحاث التصميم والسياسة، إن الأسبان نظروا إلى “المياه كعدو يجب التغلّب عليه حتى تزدهر المدينة.”

لقد مهد قرارهم الطريق للعديد من المشكلات الحديثة في مكسيكو ستي. وتم استبدال الأراضي الرطبة والأنهار بالخرسانة والأسفلت، لتغرق في  موسم الأمطار، وفي موسم الجفاف، تكون يابسة تماما.


استنفاد الخزين

 يأتي ستون بالمئة تقريبا من مياه مكسيكو ستي من طبقة المياه الجوفية، ولكن يتم استخراجها بشكل مفرط لدرجة أن المدينة تغوص بمعدل مخيف، نحو خمسين سنتمترا سنويا، وفقا لأبحاث حديثة. ولا يتم تجديد طبقة المياه الجوفية بالسرعة الكافية، حيث تتدفّق مياه الأمطار عبر أسطح المدينة الصلبة غير المنفذة، بدلا من أن تنساب إلى داخل الأرض. ويتم ضخ بقية مياه المدينة لمسافات شاسعة، ورفعها صعودا من مصادر خارج المدينة، في عملية غير فعّالة بشكل لا يصدق، حيث يتم فقدان نحو أربعين بالمئة من المياه من خلال التسريبات. 

يوفر نظام كوتزامالا لتوزيع المياه، وهو عبارة عن شبكة من الخزانات ومحطات الضخ والقنوات والأنفاق، نحو 25 في المئة من المياه التي يستخدمها وادي المكسيك، الذي يضم مدينة مكسيكو، بيد أن الجفاف الشديد كان له أثره، حيث تبلغ طاقة النظام نحو 39 بالمئة، وهو يعاني من أدنى مستوى تاريخي. 

تقول “فابيولا سوسا رودريغيز”، رئيسة النمو الاقتصادي والبيئة في جامعة متروبوليتان المستقلة في مكسيكو سيتي: “إنها ما يقرب من نصف كمية المياه التي ينبغي أن نحصل عليها.” وفي تشرين الأول الماضي، أعلنت هيئة المياه الوطنية في البلاد، أنها ستقيّد امدادات المياه من كوتزامالا بنسبة  ثمانية بالمئة “لضمان توفير مياه الشرب للسكان تحت ظل الجفاف الشديد.”

وبعد بضعة أسابيع فقط، شددت السلطات القيود على نحو كبير، ما أدى إلى خفض المياه التي يوفرها النظام بنسبة 25 بالمئة تقريبا، وألقوا باللوم على الظروف الجوية القاسية. يقول “جيرمان أرتورو سانتويو”، المدير العام لهيئة المياه، عبر بيان في ذلك الوقت: “سيتعيّن اتخاذ التدابير اللازمة لتوزيع المياه التي تمتلكها كوتزامالا مع مرور الوقت، لضمان عدم نفادها.”


تقارير مرعبة

وتشهد نحو ستين بالمئة من المكسيك جفافا يتراوح بين المعتدل والاستثنائي، وفقا لتقرير صدر شهر خلال شباط الماضي. ويعاني ما يقرب من 90 بالمئة من مدينة مكسيكو سيتي من الجفاف الشديد، ومن المتوقع أن يزداد الأمر سوء مع بداية موسم الأمطار الذي لا يزال على بعد أشهر. وتقول “جيون غارسيا بيسيرا”، أستاذة الهندسة بجامعة شمال كولومبيا البريطانية: “نحن نمر بفترة منتصف موسم الجفاف تقريبا، ومن المتوقّع حدوث زيادات مستمرة في درجات الحرارة حتى نيسان أو آيار القادمين.” ويؤثر تقلّب المناخ الطبيعي بشكل كبير على هذا الجزء من المكسيك؛ وقد جلبت ثلاث سنوات من ظاهرة النينيا الجفاف إلى المنطقة، ثم ساعد حصول ظاهرة النينيو في العام الماضي على توفير موسم ممطر قصير مؤلم لم يسفر عن إعادة ملئ الخزانات. ولكن الاتجاه الطويل الأمد المتمثل في الإحتباس الحراري العالمي الناجم عن أنشطة بشرية يتردد في الخلفية، الأمر الذي يؤدي إلى تغذية فترات الجفاف الأطول وموجات الحرارة الأكثر شراسة، فضلا عن هطول أمطار غزيرة عند سقوطها. 

تقول سارمينتو من الجامعة الوطنية المستقلة: “لقد أدى تغيّر المناخ إلى زيادة حدة حالات الجفاف بسبب نقص المياه،” مضيفة بأن درجات الحرارة المرتفعة “قد تسببت بتبخّر المياه المتوفرة في نظام كوتزامالا.”

وشهد الصيف الماضي موجات حارة شديدة إجتاحت أجزاء واسعة من البلاد، أودت بحياة ما لا يقل عن مئتي شخص؛ وكان من الممكن أن تكون موجات الحر هذه “غير ممكنة عمليا” لولا تغيّر المناخ، وفقا لتحليل أجراه العلماء. ولقد اصطدمت التأثيرات المناخية بالآلام المتزايدة لمدينة سريعة التوسع، فمع الزيادة السكانية، يشير الخبراء إلى أن نظام المياه المركزي لم يواكب ما مفترض توفيره.


{يوم الصفر؟}

وقد أثارت الأزمة جدلا حادا حول ما إذا كانت المدينة ستصل إلى “يوم الصفر”، حيث ينحدر نظام كوتزامالا إلى مستويات منخفضة لدرجة أنه لن يتمكن من توفير أية مياه لسكان المدينة. وذكرت وسائل الإعلام المحلية على نطاق واسع أوائل شهر شباط الماضي أن مسؤولا من أحد فروع هيئة المياه قد قال إنه من دون هطول أمطار غزيرة، يمكن أن يصل “يوم الصفر” في وقت مبكر بحلول يوم 26 حزيران القادم.

لكن السلطات سعت منذ ذلك الحين إلى طمأنة السكان بأنه لن يكون هناك يوم صفر. وخلال مؤتمر صحفي عقد قبل عدة أسابيع، قال الرئيس المكسيكي “أندريس مانويل أوبرادور” إن العمل جار لمعالجة مشاكل المياه. 

وقال عمدة مدينة مكسيكو، “مارتي باتريس غواداراما”، في مؤتمر صحفي عقد مؤخرا، إن التقارير عن اليوم الصفر هي “أخبار كاذبة” ينشرها المعارضون السياسيون. إلا أن العديد من الخبراء يحذرون من أزمة متصاعدة، حيث تقول رودريغيز إن المياه في مكسيكو ستي قد تنفد قبل حلول موسم الأمطار إذا استمرّ استخدامها بنفس الطريقة. “من المحتمل أن نواجه يوم الصفر.”

وأضافت خبيرة المياه أن هذا لا يعني انهيارا كاملا لنظام المياه، لأن المدينة لا تعتمد على مصدر واحد فقط. لن يكون الأمر هو نفسه الذي حدث عندما إقتربت كيب تاون في جنوب أفريقيا بشكل خطير من الجفاف التام في عام 2018 بعد جفاف شديد دام عدة سنوات، وتقول: “سيظل لدى بعض المجموعات الماء، لكن معظم الناس لن يحصلوا عليه.”

ويقول “راؤول رودريغيز ماركيز”، رئيس المجلس الاستشاري للمياه غير الربحي، إنه لا يعتقد أن المدينة ستصل إلى يوم الصفر هذا العام، لكنه حذر من أنها ستصل إلى تلك الحالة إذا لم يتم اجراء تغييرات، ويضيف: “نحن نحضع لوضع حرج، ويمكن أن نصل إلى وضع متطرف خلال الأشهر القليلة المقبلة. لا أظن بوجود أية استعدادات.”


تحذيرات مكررة

منذ ما يقرب من عقد من الزمن، تؤكد رودريغيز إنها كانت تحذّر المسؤولين من خطر يوم الصفر بالنسبة لمكسيكو ستي، وتقول بأن الحلول واضحة: تحسين معالجة مياه الصرف الصحي من شأنه أن يزيد من توافر المياه ويقلل التلوّث، في حين يمكن لأنظمة تجميع مياه الأمطار التقاط مياه الأمطار ومعالجتها، وتسمح للسكان بتقليل اعتمادهم على شبكة المياه أو صهاريج المياه بنسبة ثلاثين بالمئة.

ومن شأن إصلاح التسرّبات أن يجعل النظام أكثر كفاءة ويقلل من حجم المياه التي يجب استخراجها من طبقة المياه الجوفية، بحسب رودريغز، مضيفة بأن الحلول القائمة على الطبيعة، مثل استعادة الأنهار والأراضي الرطبة، ستساعد في توفير المياه وتنقيتها، مع ميزة إضافية تتمثل في تخضير المدينة وتبريدها.

وتقول هيئة المياه عبر بيان لها على موقعها الإلكتروني إنها تنفذ مشروعا مدته ثلاثة سنوات لتركيب وتطوير وتحسين البنية التحتية للمياه لمساعدة المدينة على مواجهة النقص الذي يعانيه نظام كوتزامالا، ومن ضمن المشروعات إضافة آبار جديدة وتنصيب محطات لمعالجة المياه. لكن في هذه الاثناء، تتصاعد التوترات حيث يضطر بعض السكان إلى مواجهة النقص، ومع ذلك غالبا ما يبقى آخرون في المناطق الأكثر ثراء، غير متأثرين.

تقول رودريغيز: “هناك عدم تكافؤ واضح يشوب عملية الحصول على المياه في المدينة، وهذا يرتبط بدخل الناس،” مضيفة أنه على الرغم من أن اليوم الصفر قد لا يصل بمخاطره إلى مكسيكو سيتي بأكملها، إلا أن بعض الأحياء تتصارع معه منذ سنوات.

وتقول “أماندا مارتينيز”، المقيمة في منطقة تلالبان بالمدينة، إن نقص المياه ليس بالأمر الجديد بالنسبة للناس هنا. وغالبا ما تضطر هي وعائلتها إلى دفع أكثر من مئة دولار نظير الحصول على كمية خزان من إحدى شاحنات المياه في المدينة. 

لكن الأمر يزداد سوءا: “أحيانا، قد تمر فترة زمنية لأكثر من أسبوعين من دون الحصول على ماء،” وأعربت عن خشيتها لما قد يحدث مستقبلا.