السلم المجتمعي: مشكلات وحلول

آراء 2024/03/24
...

  د. عدي حسن مزعل

أثبتت التجارب في العراق وغيره كثير من الدول، أن هذا التدخل مصدر تهديد للسلم المجتمعي، خاصة وإن بعض الدول استغلت ورقة المكونات وصعّدت من الأحداث الدامية في السنوات الماضية لتحقيق مصالحها على حساب أمن واستقرار العراق.

 منذ أيام ألقى السفير الفلسطيني في بريطانيا كلمة حول غزة، قال فيها : «سوف نتعافى وننهض لكن هل سيتعافى العالم ؟ «. تعيش غزة منذ شهور أحداثاً دامية ومجازر مروعة، وصاحب الكلمة يشير وبتفاؤل إلى التعافي والنهوض بعد انتهاء الحرب، وفي الوقت ذاته ينقد ضمير الساسة والفاعلين في العالم على صمتهم أو تواطؤهم على ما يجري في غزة. ويهمني في حديثه مفردات: «نتعافى» و»ننهض».
 لقد شهد العراق أزمات وأحداث كبرى حروب خارجية وداخلية، ورغم انتهائها منذ مدة، إلا أن أرواحنا لم تشف منها. ربما حققنا قدراً من الأمان النسبي، وشيئا من التحسن الاقتصادي على مستوى دخل الفرد، ولكننا لم نتقدم خطوة واحدة على صعيد إزالة ما علق في أرواحنا من معاناة وآلم. فماضينا بكل إخفاقاته صنعنا على النحو الذي نحن عليه اليوم، وهو ماض لا يسر قطعاً. ولو حاولنا التقرب أكثر لنفوسنا لكي نستقرئ رؤيتها للحاضر والمستقبل، أقصد لو سألنا عن واقعنا الحالي ورؤية هذا الفرد أو ذاك له وللمستقبل، لن نجد إجابة فيها فسحة أمل بالنهوض والتقدم نحو الأفضل إلا نادراً! والسؤال: لماذا إجابتنا تخلو من الأمل والتفاؤل بالمستقبل؟ الحقيقة أن سؤال السلم المجتمعي حلقة من سؤال أعم وأشمل، هو سؤال التأخر والتخلف الذي يعيشه مجتمعنا مقارنة بمجتمعات أكثر تقدماً وازدهاراً.
 والإجابة عن هذا السؤال وثيقة الصلة بجملة عوامل، سياسية، ثقافية، اقتصادية، اجتماعية. ومن الصحيح الحديث عن مكونات طائفية وقومية، ومؤسسات سياسية ودينية، بوصفها عوامل فاعلة في تحقيق السلم المجتمعي من عدمه. مع ذلك، أعتقد أن السلم المجتمعي لا يختصر في الحوار أو التقارب بين الطوائف والقوميات، ولا في العناوين العريضة والشعارات الكبيرة، أرى أن ثمة مداخل أخرى للموضوع، لو توفرت معالجات حقيقية لها، لما عدنا نتحدث عن السلم المجتمعي، منها: الأحزاب السياسية، التدخل الخارجي الذي أصبح معطى مقبولاً وحسناً لدى بعض القوى والأحزاب، العنف بوصفه سلوك مرجعه ثقافة راسخة في المجتمع، بعض وسائل الإعلام التي تحمل أجندة طائفية أو لا أخلاقية تبث سمومها بين أفراد المجتمع، انتشار السلاح خارج سلطة الدولة، وأخيراً الهوية الوطنية التي أدى تغييبها إلى تفكيك وحدة المجتمع وزيادة انقسامه. ولنتوقف عند بعض هذه المداخل. ففيما يتعلق بأداء بعض الأحزاب السياسية، لا شك أنها لعبت دوراً سلبياً للغاية على صعيد تكريس الكراهية والعداوة بين أفراد المجتمع وطوائفه وقومياته وأديانه، بل إنها وظفت ورقة الطائفية والقومية، بما يسهم في تعزيز سطوتها وهيمنتها، وحين بدت تلك الأوراق تفقد تأثيرها في المجتمع نزعت بعض الأحزاب جلدها وارتدت ثوباً عصرياً حديثاً يلائم متطلبات المرحلة والتغيرات الطارئة، إذ بدت تلهج في خطابها وتسبح بحمد الدولة المدنية والمواطنة والديمقراطية، أي أصبحت تتبنى خطاباً يؤسس لدولة تتراجع فيها مفردات الطائفة والقومية والدين، لحساب مفردات المواطنة والدولة المدنية، ولكن دون أن يكون لهذا التغيير أثر ملموس حقيقي على حياة المواطن، فالتغيير كان على صعيد الخطاب لا أكثر.
 وحول التدخل الخارجي، فقد أثبتت التجارب في العراق وغيره كثير من الدول، أن هذا التدخل مصدر تهديد للسلم المجتمعي، خاصة وإن بعض الدول استغلت ورقة المكونات وصعّدت من الأحداث الدامية في السنوات الماضية لتحقيق مصالحها على حساب أمن واستقرار العراق. كما أن هذا التدخل أصاب العملية السياسية بمقتل، إذ نلاحظ بعد كل عملية انتخابية، تعمل الدول الفاعلة في الشأن الداخلي العراقي على توزيع الأدوار، فهي من تدعم (س ) أو تعترض على ص من المرشحين لشغل المناصب الرئيسة والمهمة، وهي من تضغط باتجاه السير في هذه السياسة أو تلك، وهو أمر لطالما أدانته وحذرت من خطورته مرجعيات دينية وقوى سياسية وشخصيات فاعلة، وما زال هذا التدخل فاعلاً ومسيطراً.
وثمة عامل آخر يستحق الوقوف عنده وتسليط الضوء عليه، وهو عامل الثقافة السائدة في مجتمعنا، والتي لا يخفى أن العنف واستعمال القوة عنصر أساسي فيها، ومن مصادر تهديد السلم المجتمعي. فالعنف ظاهرة رافقت المجتمع العراقي منذ أمد بعيد، وهذه الظاهرة في النهاية وليدة عوامل عدة، يمكن القول: إن للثقافة حصة الأسد فيها. وذلك لأن الثقافة هي التي تشكل هويتنا وتحكم أذواقنا وأقوالنا وسلوكنا، بل وتحكم تفكيرنا ورؤيتنا للأشياء وللعالم. ومكافحة آفة العنف تقتضي عملية تثقيف كبرى تقودها سلطة ومؤسسات، وتدعمها أحزاب ونخب ووسائل إعلام وجامعات ومدارس وشتى مؤسسات الدولة وغير الدولة، كل ذلك من أجل الشفاء من تلك الآفة، ومن أجل بناء مجتمع مدني يحتكم للقانون وينتصر للحياة.
 أما الهوية الوطنية، فمن شأن الاشتغال عليها التأسيس لسلم مجتمعي حقيقي، وذلك عبر بث الروح الوطنية وإعادة إحياء فكرة الانتماء، بعد أن بلغ العراق عتبة (وطن غير صالح للعيش). ذلك أن هذه الهوية غيبتها قوى وأحزاب لصالح هويات فرعية قومية وطائفية، وحتى حزبية.
صفوة القول: على النخب والأحزاب والحكومات العمل على إعلاء شأن الهوية الوطنية، وذلك بإيجاد الجامع والمشترك بين أبناء الوطن الواحد، بعيداً عن التمييز العرقي والمذهبي، ولدفع الأخطار الخارجية التي تهدد آمن البلاد والعباد..... لأنه من غير هوية وطنية تكون بوصلتنا وسط المشاكل والأزمات ليس ثمة نور في نهاية النفق. فالتركيز على محور الهوية، والأخذ به من طرف القوى المؤمنة بالإصلاح والتغيير، من شأنه معالجة كل الأمراض والأزمات البنيوية التي يعيشها مجتمعنا، شرط أن لا تتحول هذه الهوية إلى وثن يعبد، وإنما التعامل معها كمعطى فيه خلاصنا، وعبره نقرر مصيرنا نحن لا الغرباء، حين نسترد قرارنا السياسي والاقتصادي والأمني، فالعراق سيد نفسه ولا بد له أن يكون كذلك.