الولايات المتحدة.. العزلة والتدخل

آراء 2024/03/27
...

 د. أثير ناظم الجاسور

ماذا لو عادت الولايات المتحدة إلى عزلتها واستقرت على نصائح الآباء المؤسسين تحديداً ما طرحه جورج واشنطن 1796 وجيمس مونرو 1823؟. لم تكن عزلة الولايات المتحدة في بداياتها مبنية على اعتبارات القوة، التي لا تقهر أو لاعتبارات التوازن واعادة البُنية التنظيمية للنظام الدولي، بل كانت نوعاً من القراءات التي تحاول أن تدرس وتفسر العالم وعملية إدارته، من خلال خلق ديناميكيات تساعدها على بناء استراتيجيات تدفع بها إلى أن تكون قادرة على مواجهة التحديات

التي تم التحذير منها من قبل المؤسسين، الذين كانوا على دراية بالوضع الاقليمي والدولي بالنسبة لأمريكا، فقد طرح جورج واشنطن في العام 1796 فكرة تجنب التحالف مع أي دولة، واذا اقتضت الضرورة أن يكون التحالف قصير المدى، وفي العام 1823 طرح جيمس مونرو فكرة الاكتفاء بالجزء الغربي من العالم والسيطرة عليه، وعدم التدخل في شؤون الدول الداخلية وعدم السماح بالتدخل بالشأن الأمريكي، بالتالي فإن فكرة إدارة الدولة تمت صياغتها وفق عملية عُزلة مُحكمة يتم من خلالها تحديد قضايا الأمن والحماية للدولة، التي لابد من أن تتم وفق صياغة أهدافها بالشكل الذي يجعل منها اكثر تكيفا مع الاحداث في مرحلة كانت تتطلب ذلك. بعد الحرب العالمية الثانية والأسس القواعد، التي تمت صياغتها وفق شروط المنتصرين وتحول النظام بهبوط وسقوط قوى وصعود أخرى تطلبت المرحلة إعادة تفكير بالقواعد الواجب اتباعها، والتي مهدت إلى إيجاد قوتين كبيرتين كل منهما يحكم قسم أو جزء من العالم، من خلال الإعلان عن نظام ثنائي القطبية الذي مهد أيضا بدوره إلى إظهار مجموعة من الاستراتيجيات، التي جعلت للصراع قالب مختلف يصحبها تغيرات سريعة ومرعبة، سواء للمعسكرين المتحاربين أو للدول المؤيدة، تطلبت هذه المرحلة انقسام العالم إلى معسكرين شيوعي - رأسمالي، وانقسام أوروبا إلى شرق وغرب من خلال جدار برلين العازل، مما جعلت من المرحلة صلبة غير قابلة للتوازن إحالة العالم إلى توازن رعب من خلال التنافس على امتلاك أكبر عدد من الرؤوس النووية، التي جعلت من الدول تترقب بحذر وخوف وخشية من تنشب حرب نووية تنهي النظام بكل تركيبته السياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية، وبدأت حروب الإنابة وعملية تمرير المسؤولية للقوى الثانوية المؤيدة، لهذا المعسكر أو ذاك إلى جانب التنافس على الهيمنة على مخرجات النظام آنذاك، إلى أن بدأت تظهر للعالم بوادر الضعف، التي دبت في جسد المعسكر الشرقي والصراعات الداخلية التي عصفت بدوله، مما ساعد على بقاء الولايات المتحدة وحلفائها مهيمنين من حيث الأدوات والخيارات المتاحة لهم، كل المقدمات والممارسات التي اتبعتها القيادة السوفيتية كانت تعطي الإشارات إلى أفول نجمها.

بعد انتهاء الحرب الباردة طرأ التحول الأكثر تراجيديا للمعسكر الشرقي، وبدء الحديث عن نهاية التاريخ والصراع الجديد من خلال إحياء فكرة العدو الجديد، الذي بات من ضرورات بقاء القوة العظمى الوحيدة، التي عملت ولا تزال على إحياء فكرة السيطرة والنفوذ والهيمنة على القرار العالمي، تبدلت الاستراتيجيات التي انحصرت وفق تفكير القوة العظمى الوحيدة في العالم وباتت المناطق مقسمة، وفق متبنيات السياسة الخارجية بأدواتها ووسائلها الجديدة التي تطلبتها المرحلة، ابتدأت بحرب الخليج وإخراج العراق من الكويت 1991 والهيمنة التامة على الخليج العربي، وانتقلت للشرق الأوروبي من خلال التمدد نحو منطقة البلقان وحرب البوسنة والهرسك 1995 وبعدها باربع سنوات حرب كوسوفو 1999، لم يستطع النظام جر أنفاسه واستيعاب فكرة القطب الأوحد المسيطر حتى جاءت أحداث 11 سبتمبر 2001، لتؤكد فكرة الهيمنة واعتلاء عرش العالم من خلال وسائل جديدة لنظام عالمي جديد، تمت صياغته في اروقة البيت الأبيض ومراكز التفكير والمركب الصناعي العسكري الأمريكي، على أثر ذلك بات التوسع والتمدد والسيطرة هي سمة النظام الجديد الذي تخللته تدخلات واحتلالات ودعم مباشر للأنظمة الموالية هنا وهناك.

مع كل الأحداث التي مر بها العالم والتحولات المهمة والخطيرة، والتبدلات التي ساعدت على تأكيدها الفواعل الجديدة من غير الدولة المدعومة من قبل الولايات المتحدة، اما اليوم ووفق فكرة العودة للعزلة ماذا ستترك أمريكا للعالم؟، بالدرجة الأولى يتراود للأذهان مسألة ملئ الفراغ الحاصل لي مناطق مختلفة من العالم سواء تلك التي يحكمها وجود القواعد العسكرية أو تلك التي تتحدد وفق معادلة الحليف الضامن، لكن هذا لا يمنع من أنها ستترك نقاط مهمة فيما لو قررت الانعزال والاكتفاء بما لديها من قدرات على قدر متوازن من العلاقات على حدود معينة للتنافس لا أكثر، لكن قبل ذلك ما الداعي أو الدافع الذي يجعل من القوة المهيمنة أن تنعزل؟، قد يكون لهذا القرار عدة عوامل عالمية تُشكل الأساس في اتخاذ قرار كهذا لكن تبقى البيئة الداخلية ومحركاتها هي الأساس في بلورة أي فكرة أو توجه:

- عودة أنصار العزلة داخل الولايات المتحدة (المونروية) التي تُمثل تيارات فكرية وسياسية واقتصادية تعود في هذه الخطوة إلى الخطورة، التي أصبح بها العالم من خلال التطور الحاصل، مما سيؤدي إلى حدوث صياغات جديدة في التنظيم والادارة تُمهد لبدايات ضعف الولايات المتحدة.

- بروز تيارات فكرية اكثر تشدداً لفكرة الانعزال والركون عن التدخل في المشاكل العالمية والاكتفاء بمسمى القوة العظمى المهيمنة في مجالات معينة، وعدم التدخل في الشؤون العالمي التي قد تسبب خسائر اكثر للولايات المتحدة.

- السعي من قبل هذه التيارات الحفاظ على أكبر قدر ممكن من التوازن في سياسة الولايات المتحدة التي أصبحت أكثر قوة تواجه أكبر موجة كره في العالم بسبب سياساتها، التي سببت فوضى كبيرة في مناطق مختلفة من العالم.

- الخلاص من الاستنزاف الحاصل في الموارد والقدرات، التي باتت رهينة المشارع الموضوعة في سبيل تحقيق الاستراتيجيات الطويلة الأمد والتي بالضرورة تؤثر في مستويات التوازن في العالم.

- الضغط الخارجي الذي يلعب دوراً في تحييد السياسات الامريكية في العديد من المناطق، خصوصاً واليوم العالم يشهد صعود قوى تعمل بالضد من الاستراتيجية الامريكية.

- ضعف العلاقة الأمريكية الاوروبية التي ستلعب دور في دخول قوى على خط العلاقة يُهدد النفوذ الامريكي، مما يسهم في نهاية حلف شمال الاطلسي وفرط عقد التحالف مع الحلفاء الاوروبيين.

- زيادة التحالفات المضادة والمشاريع الفكرية والسياسية التي تنادي بعودة نظام عالمي متعدد الاقطاب.

- محاصرة الولايات المتحدة من قبل القوى الاساسية في النظام روسيا على سبيل المثال وتطبيق فكرة الحزام القاري الاوراسي، الذي يُحدد من خلاله فكرة المساحة الأرضية المنتشرة والمهيمنة على مناطق مهمة وحساسة من العالم.

- محاصرة الولايات المتحدة من خلال عملية بسط النفوذ واقتصار سيطرتها على جزء من النصف الغربي من الكرة الارضية مكتفية بكندا وبعض دول امريكا اللاتينية، بعد دخول بعض من هذه الدول في تحالفات سياسية وتنظيمات اقتصادية.

قد تكون الفكرة مثالية أو صعبة التحقيق، لكنها غير مستحيلة مع التطورات الحاصلة في النظام العالمي، الذي بات تتحكم فيه اللحظة الدولية ولحظة حركة الشركات العالمية، وتدفق رؤوس الأموال والمخاوف من الطاقة وأمنها وخطوط امدادها، كل فكرة تنطلق من معطيات وقراءة للواقع الذي بات يرى القراءات الاكثر سلبية عن سياسة القوة العظمى، التي توغلت في تفاصيل العالم لتجد من الضروري أن تُشكل القوى جزءا أساسيا من محركاته لغرض ديمومة الهيمنة 

والسيطرة.